اخبار لبنان
موقع كل يوم -صحيفة الجمهورية
نشر بتاريخ: ١١ حزيران ٢٠٢٥
أدمجت اللامركزية مبدأ السوق الحرّة بمفهوم الحرّية السياسية، وجرى الترويج لها باعتبارها وسيلة ديموقراطية، في حين أنّها شكّلت الأداة الأساس لاختراق الدولة وتفكيك القطاع العام. لقد أصبحت الدولة، شيئاً فشيئاً، خادمةً لمصالح الشركات، متخلّيةً عن دورها في حماية الصالح العام.
تمدّ اللامركزية أذرعها إلى كل مكان للسيطرة، فتمارس نفوذاً حقيقياً يُشبه «الأخطبوط» كما وصفه المفكّر «روبرت إسحاق» في كتابه «مخاطر العولمة». تتوزّع بنَيتها بين مقار إدارية في دول، ومراكز إنتاج في أخرى، وأسواق استهلاكية في ثالثة، إلخ... ممّا يُتيح لها التهرّب من الضرائب والتحايُل على القوانين وسلب السلطة من السلطة وسحب الأموال من الدولة والشعب، لا تحت أعيُن السلطة وحسب بل غالباً بتواطئها. لاهثةً وراء خصخصة المؤسسات العامة والقطاعات الحكومية الأساسية.
من هنا، لم تكن الخصخصة خياراً اقتصادياً فحسب، بل مشروعاً سياسياً ممنهجاً لإضعاف القطاع العام، عبر شيطنته وتشويه صورته أمام الرأي العام. إنّه أداة سياسية تعمل على تقويض دور الدولة الفعليّ وإقناع الرأي العام بعجزها عن إدارة مرافقها للاستيلاء على الانتفاع العام. من هنا، فَقَدت الدولة سيادتها الحكومية والاقتصادية والسياسية وتآكلت وظيفتها الاجتماعية وتحوّلت إلى «الدولة القاضمة»، خادمةً لنظام السوق الرأسمالي.
إنّ «الدولة القاضمة» لا تعكس قوة النظام الحاكم، كما وأنّها لا تُترجم حيادية الدولة التي تشكّل مبدأً أساسياً في النظام الديموقراطي. بل تشير إلى «اللادولة» أو «دولة الحدّ الأدنى» État minimal التي لا حَول لها ولا قوة أمام مدّ الأخطبوط الرأسمالي عابر للحدود، تحت لواء الإستثمار والدعم الاقتصادي.
يعتمد الفكر الاقتصادي الليبرالي القائم على مبدأ «دعه يعمل» Laisser faire و»اليد الخفية» Main invisible للفيلسوف والمفكر الاقتصادي أدم سميث في كتابه «ثروة الأمم»، الذي يحدّ من دور الدولة وتدخّلها في الاقتصاد الاجتماعي، خصوصاً في مجال إعادة توزيع الثروات.
من ناحية أخرى، يدعم هذا الفكر المفهوم القائل إنّه كلّما قلّ تدخّل الدولة زادت فُرَص خلق الثروات والمنفعة الاجتماعية، لأنّ السوق الحرّ يُنظّم نفسه بنفسه من خلال سعي كل فرد لمصلحته الخاصة، ممّا يخدم المصلحة العامة بشكل غير مباشر.
كذلك، تعتبر الرأسمالية الليبرالية أنّ الهدف الضروري من وجود الدولة يقتصر فقط على فرض القوانين والحرص على تطبيقها، بسط الأمن الاجتماعي وضمان حريّة التبادل الاقتصادي. أي أنّها تتكوّن من مكوّنَين: الشركات والمستهلكين، الاقتصاد والمجتمع، ويجب أن يكون العنصر الرابط بين هذَين المكوّنَين هو «دولة الحدّ الأدنى».
طبعاً، هذه الممارسات البراغماتية لم تكن عفوية، بل تحققت بمشاركة السياسيِّين والمسؤولين الذين جعلوا من مواقعهم وأنفسهم ومسؤولياتهم أداة بأيدي هذه السياسات الغوغائية مقابل تحقيق منافعهم الفردية الخاصة وإشباع جشعهم الذي لا يعرف حدوداً. ويُروّجون لخطابات تؤكّد فشل القطاع العام وتهالك القطاع الصحي وعجز الضمان الاجتماعي وتعطّل القطاع التعليمي وتصوير الكهرباء والاتصالات كقطاعات فاشلة وضرورة «الإنقاذ» عبر إحالة كل ذلك إلى القطاع الخاص.
من هنا، لم تَعُد الدولة تمارس سلطتها كما يجب، بل تقلّص دورها وتراجعت وظائفها الاجتماعية، لتتحوّل إلى أداة تنفيذية تعمل على تسهيل مصالح الشركات التي يُديرها أفراد. لقد دفعوا بالدولة إلى حافة الهاوية، فتعمّق الفقر في أوساط الفقراء، وازداد الأثرياء ثراءً، مَن كان ميسوراً طابت له الأحوال، أمّا مَن لا حَول له ولا قوة، فخياراته بين الجوع والتشرّد على قارعة الطريق، أو الموت صامتاً على عتاب المستشفيات المغلقة في وجهه.
إزاء هذا المشهد القاتم، نضع كل رهاناتنا على عاتق العهد الجديد، ونحن على ثقة تامة بأنّه سيُطلِق مساراً إنقاذياً فعلياً لمواجهة التحدّيات الجسيمة التي يفرضها توأم اللامركزية والخصخصة.
لقد آنَ الأوان لاستعادة دور الدولة وإعادة تفعيل دور «دولة الرعاية» État providence ككيان حكومي يتصف بمدى قوة تدخّل الدولة لتنظيم القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، عبر تفعيل حكومة سيادية حقيقية قادرة على النهوض بوطننا وإخراجه من أزماته المتراكمة. يظهر تطبيقها من خلال التدابير المختلفة التي تهدف إلى إعادة إحياء القطاع العام، بل توسيعه ليشمل التغطية الصحية، رعاية المرضى ومن ثم تلبية احتياجات ذوي الاحتياجات الخاصة.
أضف إلى ذلك، من بين جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية، تغطية المخاطر الاجتماعية المرتبطة بالشيخوخة والبطالة والفقر. فتكون لها تأثيرات على الاستهلاك وبالتالي على الطلب، ممّا يُحفّز النمو الاقتصادي على مختلف طبقات المجتمع. فيَحيا المواطن بروح الطمأنينة والاستقرار، وتكون الدولة قد أرست فعلياً أسُس الحُكم القائم على العدالة الاجتماعية والإنصاف والتنمية والاستدامة والمساهمة في الصالح العام، التي طالما تاقت إليها نفوس أبناء مجتمعنا.
إنّ صون كرامة المواطن في وطنه ليس ترفاً، بل حقُّ مقدّس، لا يُساوم عليه.