اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تحقيق: رامي ضاهر
في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها لبنان - من انهيار اقتصادي ومالي واجتماعي - تحوّلت الكهرباء من خدمةٍ أساسية إلى «ترفٍ» لا يناله إلّا من يملك القدرة على الدفع. ومع الغياب شبه التام للدولة عن هذا القطاع الحيوي، برزت ظاهرة خطيرة باتت تُعرف باسم «مافيا الاشتراكات الكهربائية»، التي تتحكم بمصير الناس ونور بيوتهم، وتفرض واقعاً من العتمة المدفوعة الثمن.
الواقع المرير: كهرباء الدولة غائبة والمواطن رهينة المولد
منذ سنوات، يعيش اللبنانيون على وقع تقنينٍ قاسٍ من مؤسسة كهرباء لبنان، التي لا تؤمّن في بعض المناطق أكثر من ساعة أو ساعتين يومياً من التيار الرسمي. وفي المقابل، برز أصحاب المولدات الخاصة كمنقذين شكليين، لكنهم سرعان ما تحوّلوا إلى سلطة بديلة، تفرض أسعارها وشروطها بلا رادع.
يقول جورج وهو موظف من بيروت: «أدفع كل شهر أكثر من مئة وخمسين دولارا اشتراك مولّد، ومع ذلك الكهرباء تُقطع عند أول عطل أو نفاد مازوت. إذا اعترضنا، بيقطعونا فوراً، وما حدا بيحاسبهم».
أما أم علي، وهي ربة منزل من الجنوب، فتروي معاناتها: «صرنا نخاف نحكي. المولد صار متل الدولة، بس أقوى. إذا ما دفعنا عالوقت، بيهدّدونا بقطع الاشتراك. وكل شهر بيزيدوا السعر متل ما بدهم».
هذه الأصوات تعبّر عن حال معظم اللبنانيين الذين وقعوا ضحية «منظومة الظلام»، حيث يغيب القانون، وتُسعَّر الطاقة بحسب مزاج «الزعيم الكهربائي» في كل حي أو قرية.
مافيا المولدات: اقتصاد موازٍ يحكمه النفوذ
لا يمكن الحديث عن أزمة الكهرباء في لبنان دون التوقف عند حجم الأرباح التي يحققها أصحاب المولدات. وفق تقديرات غير رسمية، تتجاوز عائدات سوق المولدات سنوياً مليار دولار، تُجنى من جيوب المواطنين، خارج أي رقابة ضريبية أو مالية.
ورغم تحديد وزارة الطاقة «تسعيرة رسمية»، فإن معظم المشغّلين لا يلتزمون بها، مستفيدين من غياب المراقبة وضعف البلديات. في بعض القرى، يتقاسم أصحاب النفوذ المناطق بينهم، بحيث يتحوّل كل حي إلى منطقة محتكرة كهربائياً، لا يمكن للمواطن الخروج منها إلّا بدفع ثمنٍ باهظ.
يقول أحد السكان في جبل لبنان: «البلدية تعرف كل شي، بس ساكتة. في مصالح مشتركة. كل واحد عنده مولد مدعوم من زعيم سياسي أو من مسؤول محلي. نحنا ضحايا».
أسباب تفاقم المشكلة
- غياب الدولة ومؤسسات الرقابة.
- الفساد داخل بعض البلديات المتواطئة.
- ضعف البنى التحتية وانعدام الاستثمار في كهرباء لبنان.
- صمت المجتمع المحلي خوفاً من الانتقام أو اليأس من التغيير.
- غياب البدائل الفعلية للطاقة في ظل ارتفاع كلفة الألواح الشمسية.
د. نضال الشرتوني: قطاع الكهرباء في لبنان رهينة المافيا السياسية والاقتصادية
يؤكد المهندس في علم الطاقة د. نضال الشرتوني أن أزمة الكهرباء في لبنان ليست أزمة تقنية بل «أزمة إدارة ومنطق تفكير».
يقول: «نحن أمام منظومة متكاملة تُبقي الكهرباء رهينة المصالح السياسية والاقتصادية. المشكلة ليست في نقص المعامل أو في المازوت، بل في من يقرر لمن تُعطى الكهرباء، ومتى، وبأي كلفة. الكهرباء في لبنان تُدار بمنطق الغنيمة، لا بمنطق الخدمة العامة».
ويرى الشرتوني أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب تحرير القطاع من المحاصصة الطائفية، وتكليف خبراء مستقلين بوضع خطة علمية وطنية: «لا يمكن أن نترك الكهرباء بيد القطاع الخاص وحده، ولا بيد دولة فاشلة. الحل هو في شراكة شفافة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص، ضمن إطار وطني يضمن العدالة والمحاسبة».
ويتابع: «رأينا تجارب كثيرة في العالم، حيث تحوّلت الكهرباء إلى سلعة بيد المافيات بعد خصخصة غير مدروسة. لبنان اليوم يعيش هذا النموذج بكل وضوح. لذلك، المطلوب هو إصلاح جذري، يبدأ من تغيير العقلية قبل تغيير الأسلاك».
أصوات من الميدان
يقول صاحب إحدى المتاجر: «صرنا نحسب كلفة الكهرباء قبل ما نشغّل البراد أو المكيّف. فاتورة المولّد لحالها بتفوق الأرباح الشهرية أحياناً. البلد صار يعيش على العتمة، والدولة بتتفرج».
في المقابل، يبرّر أحد أصحاب المولدات في الشوف: «نحنا مش ضد الناس، بس المازوت غالي، والصيانة مكلفة، والدولة ما بتساعد. لو في كهرباء رسمية ما كنا اشتغلنا بالمولدات. نحنا عم نسدّ نقص الدولة».
لكنّ معظم المواطنين يعتبرون أن هذا التبرير لا يعفي المشغلين من مسؤولية الاستغلال والتلاعب بالأسعار، ولا يبرر غياب الرقابة أو احتكار الخدمة.
الطاقة الشمسية والتعاونيات الكهربائية: أملٌ من رحم الأزمة
وسط هذا الواقع المظلم، بدأت بعض القرى اللبنانية تسلك طريقاً مختلفاً نحو التحرّر من مافيا الاشتراكات. فقد شهدت مناطق مثل ضهور الشوير وحامات والقرعون مبادرات جماعية لتأسيس تعاونيات كهربائية تعمل على الطاقة الشمسية.
في بلدة مجدل عنجر مثلاً، تعاون عدد من الأهالي لتركيب محطة شمسية صغيرة تُغذّي عشرات المنازل بكلفة ثابتة ومنخفضة.
تقول إحدى القائمين على المشروع: «اتحدنا كأهالي، جمعنا مساهمات بسيطة، واشترينا ألواحاً ومحوّلات. اليوم منعيش براحة، بلا ما نخاف من صاحب المولد ولا من الفاتورة العشوائية».
ويرى د. الشرتوني أن هذه النماذج تشكّل النواة لحلول حقيقية: «التعاونيات الشمسية ليست حلماً. إنها طريق عملي لاستعادة الناس لحقهم بالطاقة، بعيداً عن الاستغلال. كل ما تحتاجه هو دعم تشريعي وتنظيمي من الدولة، لتتحوّل من مبادرات فردية إلى مشاريع وطنية مستدامة».
كيف نكسر حلقة الظلام؟
1. إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان: من خلال تحديث الشبكة، الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتخفيض الهدر الفني والمالي.
2. تطبيق القانون بحزم: عبر فرض تسعيرة موحدة ومراقبة صارمة للمولدات الخاصة.
3. تمكين البلديات النزيهة: لتتولى الإشراف والمحاسبة بعيداً عن المحسوبيات.
4. تشجيع الطاقة الشمسية والتعاونيات الكهربائية: كبدائل مستدامة وشفافة، خصوصاً في المناطق الريفية.
5. نشر الوعي والمساءلة الشعبية: لتشكيل ضغط جماعي يرفض منطق الاستغلال والابتزاز.
إذا إنّ مافيا الاشتراكات ليست سوى وجه من وجوه الانهيار العام للدولة اللبنانية، حيث تحوّل المواطن إلى مموّلٍ لفساد مزدوج: فساد الدولة وفساد السوق.
ولا يمكن لأي خطة إنقاذ أن تنجح ما لم تُستعاد سلطة القانون، ويُفصل قطاع الكهرباء عن المحاصصة والسياسة.
كما يقول د. نضال الشرتوني في ختام حديثه: «الكهرباء ليست رفاهية، بل حق إنساني أساسي. ما لم تُدار بالكفاءة والشفافية، سيبقى لبنان يعيش في العتمة، ولو أنارت المولدات بعض الزوايا».











































































