اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٥ أيلول ٢٠٢٥
العائلة دفنتها ليلاً بوصفها 'منتحرة'. تقرير الطبّ الشرعي كشف جريمة خنق، والمشتبه الرئيس شقيقها. جرائم قتل النساء في لبنان مستمرّة.
بصمت وفي إحدى ليالي هذا الصيف في قرية بحنّين شمال لبنان، دُفنت الشابة ربيحة فراشة (31 عاماً) على عجَل بوصفها قضت انتحاراً، وقطعة قماش إلى جوارها.
لا نعش مفتوح ولا وداع، مجرّد دفن سريع ومراسم خجولة.
صبيحة اليوم التالي لدفنها انقلبت السردية: تقرير الطبّ الشرعي يُظهر آثار خدوش على جسد الضحيّة وحول عنقها، ويُرجّح الخنق بمنشفة.
تُفيد التحقيقات الأوّلية بأن شقيقها محمّد فراشة هو المشتبه به، فيما تنقل إحدى قريبات العائلة لـ'درج' أن الشقيق أبلغ والده بنيّته قتل أخته، فجاءه الجواب: 'تصرّف'.
خلال زيارتي المكان ولقاء الجيران والمحيطين، لفتني تعليق لجار من الحيّ يُغلق الهاتف بعد جملة واحدة: 'أبصر شو عاملة'، وهي جملة تختصر كيف تعيش النساء والفتيات في مجتمعات تقليدية، حيث تُلقى عليهن اللائمة حتى بعد قتلهن، ويُحمّلن مسؤوليّة موتهن بذرائع أخلاقية.
أما البلدية ومرجعيات دينية واجتماعية في المنطقة، فقد رفضت التعليق بذريعة أن ما جرى 'شأن عائلي'. لكنّ ربيحة ليست 'شأناً عائلياً'، فهي إنسانة شابّة قُتلت في حلقة جديدة في سلسلة ممتدّة من جرائم قتل النساء في لبنان.
بحسب المعطيات المتوفّرة من جيران الضحيّة ومعارفها، كانت ربيحة متزوّجة سابقاً وتعاني من بعض المشاكل، والبعض قال إنها تعاني نفسياً وتدهورت حالتها بعد الطلاق. ما جرى وفق المؤشّرات الأوّلية هو قتل متعمّد جرى تظهيره كـ'انتحار' لطمس الحقيقة وتقليص المساءلة.
من 'الانتحار' إلى الجريمة: آليّات الطمس
التصنيف المتعجّل لوفيات نساء بوصفها 'انتحاراً' ظاهرة متكرّرة في سياق العنف القائم على النوع الاجتماعي. تُستخدم لنزع السرد عن الضحيّة، ولمراكمة الشبهات حول 'سلوكها' بدل مساءلة الجاني وشبكة الحماية من حوله. هنا، كشفُ الطبّ الشرعي آثار الخنق والخدوش أعاد تسمية الحدث كما ينبغي، أي بوصفه جريمة قتل.
التعتيم والتساهل الذي يرافق جرائم قتل النساء، نجده أيضاً متمثّلاً في رفض التعليق الرسمي والديني والاجتماعي بذريعة 'الخصوصية'، وهو ما يرسّخ ثقافة الإفلات من العقاب. حين تُعامَل حياة النساء كملفّ منزلي حتى في حالات القتل والعنف، تتحوّل القوانين والمؤسّسات إلى ديكور بلا فاعلية. الرادع يبدأ من تسمية الجريمة، ومن رفض أيّ تواطؤ يغطّيها رمزياً أو اجتماعياً.
ليست ربيحة الضحيّة الأولى، ففي العام 2023، قُتلت منى الحمصي (53 عاماً) على يد طليقها عيسى سميّة في جبل محسن في طرابلس، بعد سلسلة تهديدات، أطلق النار عليها أمام منزل أهلها.
قبلها بعام توفّيت هناء خضر بعد ثمانية أيّام من تعرّضها لحروق شديدة، بنار أشعلها زوجها فيها في طرابلس، في حادثة أحدثت صدمة واسعة وأضاءت على فداحة العنف الأسري.
الباحثة والناشطة النسوية في طرابلس ملكة خانات تحدثت لـ'درج' عن واقع النساء في شمال لبنان: ' تعاني النساء في شمال لبنان من مزيج من العنف التقاطعي، بسبب الفقر بالدرجة الأولى، إذ تُعتبر طرابلس ومحيطها من أفقر المناطق على حوض المتوسط، ومع الفقر يزيد التهميش والضغوطات الاجتماعية التي تؤجّج العنف القائم على النوع الاجتماعي'.
منظّمة 'أبعاد' المعنيّة بقضايا نسوية، تحدّثت عن زيادة بنسبة 300% في عدد النساء المقتولات في عام 2023، مقارنة بالسنوات الماضية، وسُجلّت 29 حالة وفاة لنساء خلال تلك السنة. وفق بيانات UNFPA نحو 35% من النساء والفتيات بين15 – 45 في لبنان، تعرّضن للعنف من قِبل شركائهن الحاليين أو السابقين خلال الأشهر الـ12 الماضية.
الصحافية والناشطة في مجال حماية النساء مريم ياغي تقول لـ'درج': 'سنوات ونحن نبحث عن أجوبة تُشفي الغليل من قِبل الجهات المعنيّة بحماية النساء، وحمايتهن من أي نوع من أنواع التعنيف الذي من الممكن أن يصل إلى القتل، وإلى حدّ يومنا هذا الإجابات المتمثّلة بخطوات وإجراءات وقائية رادعة لا تزال غير كافية، عدا أن المجرم في أغلب الأحيان يأمن العقاب، ويأمن أن هذا المجتمع سيجد له التبريرات والأعذار المسبقة، وغالباً ما تكون هذه الجهات المجرمة تتمتّع بامتيازات عرفية وروحية واجتماعية، والشواهد على ذلك كثيرة، وقضيّة ربيحة فراشة في الشمال، مثال واضح في ظلّ اللعب على القانون وتدخّل الوصاية الروحية والعشائرية في تغيير مسار العدالة'.
ما هو 'قتل النساء'؟
قتل النساء (Femicide) هو قتل امرأة أو فتاة لأنها امرأة، أو في سياق تغذّيه الهيمنة الذكورية والسيطرة على أجساد النساء وحيواتهن وقراراتهن. يتجلّى في جرائم تُبرّر بذريعة 'الشرف'، أو يُقلّل من خطورتها عبر أعذار اجتماعية وقانونية.
القانون والممارسة: أين الخلل؟
في لبنان أُلغيت المادّة 562 من قانون العقوبات اللبناني في عام 2011، التي كانت تمنح أعذاراً مُخفّفة لجرائم تُرتكب بذريعة 'الشرف'. لكنّ النفاذ إلى أعذار مخفّفة عامّة مثل 'ثورة الغضب' ما زال قائماً، ويُستخدَم لتخفيف العقوبات في قضايا قتل النساء.
في العام 2014، صدر قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، وتعرّض لتعديلات لاحقة عزّزت أوامر الحماية، لكنّ التنفيذ ضعيف، والتنسيق بين الضابطة العدلية والقضاء وخدمات الحماية متقطّع، ما يترك نساء كثيرات في مواجهة الخطر دون مظلّة واقعية وفاعلة.
أما العنف الزوجي الجنسي فلا يزال خارج التجريم الصريح الشامل، ما يترك ثغرات كبيرة في منظومة الحماية. هذا طبعاً عدا قوانين الأحوال الشخصية الطائفية في لبنان، التي غالباً ما تميّز ضدّ النساء في قضايا الزواج والطلاق والإرث والحضانة.
تُفيد تقارير محلّية بارتفاع ملحوظ في قتل النساء خلال 2023، مع تسجيل نحو 29 حالة قتل لنساء في ذلك العام، وحديث عن زيادة كبيرة مقارنةً بسنوات سابقة.تختم الناشطة ياغي: ' يمكن القول إن معالجة جرائم قتل النساء في لبنان تحت ذريعة الشرف، لم تعد مرتبطة فقط بإصلاح النصوص القانونية، بل تتطلّب إعادة بناء منظومة اجتماعية وقضائية متكاملة: وعي مجتمعي يضع حياة النساء فوق أي اعتبار عرفي، قضاء يطبّق النصوص بصرامة بعيداً عن الأعذار التخفيفية، وسياسات عامّة تعزّز الوقاية والحماية، وإن لم يطبّق كلّ ذلك فإن ربيحة لن تكون الأخيرة'.