اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٥ أب ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
– تقاس الحروب ومساراتها عبر التاريخ بأشياء ومعايير لا مكان فيها للمشاعر والعواطف والانطباعات، وحجم الدماء والآلام والخراب، حيث يمكن أن يبدو في الظاهر مَن يقدر على القتل الأشدّ توحشاً والتدمير الأكثر همجيّة علامة تفوق في الحرب، وقد يبدو مَن يحمل أكبر قدر من الخسائر البشريّة مهزوماً، ومَن يريد وقف الحرب ضعيفاً ومَن يواصلها هو القويّ، لكن علوم الحروب لا تعترف بكل ذلك الذي يبهر عيون المشاهدين والمتابعين وتبنى عليه الروايات الإعلاميّة التي ترافق الحرب لخلق صور مشهديّة تصنع السرديّة التي تواكب الحرب، لكنها تتلاشى مع نهايتها، ويستدعي الخبراء نموذج حرب لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، حيث مات مليون ونصف مدني من الجوع وقتل مليون ونصف عسكري ومدني في الحرب وكان الجيش النازي هو الذي يخنق ليننغراد بالحصار القاتل، لكن النهاية في الحرب بما فيها دخول برلين وإسقاط النظام النازي كتبتها حامية ليننغراد.
– يقيس الخبراء الحروب بمعيارين خلال حدوثها ومعيار بعد نهايتها، والمعايير الثلاثة لا تتأثر بتغير مراحل تاريخ الحروب وأسلحتها، واستراتيجياتها وتكتيكاتها، بل يتمّ تطوير الأسلحة للفوز بالحروب وفقاً لما تكتبه هذه المعايير كأقدار لا مفرّ منها، ويتم وضع استراتيجيات الحروب لمواكبة ما تقوله هذه المعايير، وترسم تكتيكات الحروب للسير تحت لواء هذه المعايير الحاكمة المستبدّة. والمعايير هي أولاً قوة الاندفاع، وثانياً ذروة القوس المشدود، وثالثها شكل الخاتمة جوهر الحرب، وهذه المعايير الثلاثة لا تضع صاحب الحرب المهاجم ومَن يتلقى نتيجة الحرب مدافعاً في مرتبة واحدة من التقييم، بل إن جدوى الحرب ونجاحها مسؤولية من يخوض الحرب ويسأل وحده عنها، وعندما لا يحققها ويوقف حربه، يمنح المدافع نصراً عظيماً مهما كانت خسائره.
– قوة الاندفاع معيار في الفيزياء، يقول إن كل جسم متحرّك، والجيوش أجسام متحركة، تملك عند انطلاقتها قوة اندفاع تكون هي الأقصى قياسياً بالسرعة وقوة الطاقة بالمقارنة مع مراحل السير اللاحقة، فكل احتكاك يخفف السرعة ويستهلك بعض الطاقة، وفي نقطة معينة تفقد الأجسام المتحركة قوة الاندفاع، وعلى قادة الجيوش النجاح بتحقيق أهداف الحرب وحسم مسارها قبل تلاشي قوة الاندفاع، وفي حال الجيوش تُقاس قوة الاندفاع بمعيارين هما الروح القتالية للجيش وتماسك الهيكلية البشرية لتشكيلات ووحدات الجيش مع سقوط القتلى والجرحى، وكما نلاحظ فإن هذا المعيار لا يقيم حساباً لسلاح الجو ومقدراته الهائلة في التدمير والقتل، لأنه مجرد مساعد معنوي للقوات البرية التي تحسم الحرب وحدها، ومَن يتابع حرب أوكرانيا يلاحظ أن الجيش الروسي الذي بدأ الحرب ووضع أهدافها لا يزال قادراً على الحفاظ على قوة الاندفاع والمضي قدماً في تحقيق أهدافها، بينما الجيش الإسرائيلي الذي يقاتل وحده برّاً بين حلفائه، ويقتصر الدعم الأميركي والأوروبي له على مساندة خلفية نارية واستخبارية ودبلوماسية ومالية، خاض حروبه في الميدان براً طلباً لنصر قبل نفاد قوة الاندفاع، لكنه اضطر إلى الخروج من الحرب البرية مع لبنان دون حسمها خشية هذا التلاشي، كما يبدو العجز عن تحقيق نجاحات واضحة في حرب غزة، تعبيراً عن بلوغ قوة الاندفاع مرحلة قريبة من نقطة التلاشي، حيث تصريحات رئيس أركان الجيش عن تراجع الروح القتالية والحاجة لفترة نقاهة طويلة لجيشه المتعب، ومثلها حديثه عن نقص هائل في العديد البشري المحترف ومحاولة تعويضه بالاحتياط الذي لا يستجيب، خير دلالة على هذا الاقتراب من نقطة التلاشي.
– ذروة القوس المشدود يُقصد بها بلوغ الجبهة الداخلية الحد الأقصى لقدرة التحمل، واقترابها كما القوس المشدود من لحظة انقطاع الوتر، والدخول في الفوضى والسيولة والتشتت، مثل انفراط خيط المسبحة، وغالباً تسعى قيادات الجيوش إلى إبقاء جبهتها الداخلية بعيدة عن تداعيات الحرب، ولعل “إسرائيل” أكثر كيانات العالم انتباهاً لهذا العامل، سواء بسبب ضعف مساحة سيطرتها الجغرافية، أو بسبب عدم وجود حدود آمنة تشكل سنداً في حال الحرب، ولذلك وضعت “إسرائيل” رهانها على الحروب السريعة والخاطفة، ووضعت نظرية النصر الحاسم، ولعل مجرد الفشل في جعل الحرب سريعة وخاطفة والعجز عن تحقيق أيّ نصر حاسم فيها، رغم كل الحملة الدعائيّة المعاكسة، تعبير عن أول الفشل، ثم جاء الذهاب إلى وقف إطلاق نار مع لبنان بغير الشروط المعلنة لوقف الحرب، تفادياً لمزيد من التساقط لصواريخ المقاومة في لبنان على عمق كيان الاحتلال وصولاً إلى تل أبيب، بمثل ما كان الذهاب لتجنب ما يصيب القوات البرية مع الاقتراب من تلاشي قوة الاندفاع، وتفادي بلوغ ذرة القوس المشدود، أي انهيار الجبهة الداخلية، كان العامل الحاسم في طلب وقف النار مع إيران، حيث لا حرب برية ما يفترض أن تكون الحرب المثلى للجيش الإسرائيلي، لكن أثر الصواريخ الإيرانية المدمّر والفعال كان كافياً للمزيد من الشدّ على وتر القوس، وصولاً إلى الذروة التي فرضت وقف الحرب ولا شيء قد تحقق من أهدافها، بينما بالمقابل كانت الجبهات اللصيقة بقوى المقاومة في لبنان وغزة تظهر قابلية للتأقلم مع التضحيات الهائلة التي فرضتها الحرب عليها، وبرز الفارق بين غزة ولبنان في الدوائر المحيطة، حيث تشكلت حالة القوس المشدود في لبنان وتسببت بقبول المقاومة بوقف النار دون تحقيق أهداف جبهة الإسناد والاكتفاء بملاقاة رغبة الاحتلال بوقف النار في منتصف الطريق، ولجوء الاحتلال بعد الحرب إلى الاستثمار بورقة التدخل الأميركي والعربي والرهان على المعادلات اللبنانية الداخلية لمحاصرة المقاومة وتدفيعها ثمن صمودها في الحرب ومساعدة الاحتلال على تحقيق ما فشل في تحقيقه، بينما في المواجهة مع إيران كانت الحرب عنصر توحيد وقوة للجبهة الداخلية بعكس ما كانت عامل تفكيك وضغط للجبهة الداخلية الإسرائيلية، ويكفي النظر لانتقال التظاهرات الداعية إلى وقف الحرب من عدة آلاف إلى عدة مئات من الآلاف لمعرفة حال القوس المشدود الآن.
– ختام الحروب بيد مَن يبدأها، وهو المعني برفض إنهائها قبل تحقيق أهدافها، ولذلك يكذب المهاجم الذي يوقف هجومه ليبدأ التفاوض بعد الحرب، فالتفاوض يجري تحت النار، تماماً كما يفعل الروس في حرب أوكرانيا وكما يرغب الإسرائيليون بفعله في حرب غزة، وكما كانوا يصرّحون حول حرب لبنان قبل قبول وقف النار دون تحقيق الشروط. وهذا ما يقوله وقف النار الأميركي اليمني عن فشل أميركي استراتيجي، وما يقوله وقف النار الأميركي الإسرائيلي مع إيران عن فشل استراتيجي، وحيث تشنّ أميركا و”إسرائيل” حرب تدمير محور المقاومة والقضاء عليه تبدو الحرب مستمرة بلا أفق، حيث لا فرصة لتجديد قوة الاندفاع البرّي، ولا قدرة على ترقيع القوس المشدود بأوتار احتياطيّة تجعله أكثر قدرة على التحمل، فتبدو الحرب مستمرة مع صراخ مرتفع عن انتصار لا أساس له، سوى مشاهد القتل والتجويع والتدمير، التي تمنح المقاومات المحاربة دعماً معنوياً وشعبياً داخلياً وخارجياً يفقد معه صاحب الحرب الكثير الكثير مما لا يعوّض ولا يرمم، ويبدو أن الحرب تستمر حتى تبلغ قوة الاندفاع مرحلة التلاشي فيبدأ الجيش بالتفكّك وحتى انقطاع القوس المشدود يذهب الداخل الإسرائيلي إلى الفوضى.