البنية التشكيلية للفكر والذاكرة في رسومات حيدر الياسري

في هذه اللوحة لا نرى وجهاً بقدر ما نرى تاريخاً مرسوماً باللون، ملامح لم تعد ملامح فردٍ بعينه، بل تحوّلت إلى أيقونة للإنسان العربي في رحلته الطويلة مع الذاكرة والإبداع. الوجه المسنّ ذو الشعر الأبيض الكثيف يحتلّ مركز التكوين، وكأن الزمن نفسه جلس أمامنا، يتأمّل ما بناه وما خسره. هذه اللوحة ليست بورتريهاً واقعياً، بل سيرة ذاتية رمزية للفكر العربي، مجسّدة في ملامح شيخٍ تشعّ منه الحكمة، وتغمره هالة من دفء التجربة ونور البصيرة. الياسري لا يرسم وجهاً فقط، بل يرسم الزمن وقد استحال إنساناً. كل تجعيدة في الوجه طريق، كل شعرة بيضاء ذكرى، وكل نظرة نحو الأفق نافذة مفتوحة على ماضٍ معمور بالحلم. إنه وجه لا يشيخ لأنه لا ينتمي للجسد، بل ينتمي للذاكرة، ذاكرة الأمم حين تُبدع وتقاوم بالنور. فهل يتحوّل الوجه إلى خريطة للعمر في رسومات الياسري؟

في التكوين العام، يحتلّ الرأس الضخم المساحة الكبرى من اللوحة، متجاوزًا النسب الواقعية للجسد. هذا التضخيم المقصود ليس خطأ في التناسب، بل بيان تشكيلي واضح بأن مركز الوجود هو الفكر، لا الجسد. العقل هنا أكبر من العالم من حوله، والفكر أوسع من الجسد الذي يحمله. اليدان الصغيرتان في الأسفل تمسكان بعناصر معمارية مصغّرة كمبانٍ، قباب، أعمدة، وكأن الفنان يقول: «من هنا، من هذا الرأس، تنبثق المدن». فالشيخ ليس متفرّجاً على التاريخ، بل صانعه. فاللوحة هي استذكار للفنان نوري الرواي إلّا أنها تُقرأ بشكل عام عن كل فكر ووعي.

عناصر معمارية يُبرزها في لوحة ليست رموزاً للواقع الخارجي فحسب، بل تجسيد لما بناه من معنى. إنه المهندس الروحي للعمران، لا المهندس المادي له ، يبدو وكأن الياسري قد أقام علاقة بين الدماغ والعمران، بين الفكر الذي يبني والمعمار الذي يتجسّد، حتى صارت اللوحة معادلة بصرية تقول: كل مدينة هي وجهٌ من وجوه الإنسان المفكّر. فهل اللون هو الذهب الذي يسكن الذاكرة؟

تغمر اللوحة أطياف من الأصفر والبني والذهبي، ألوان الأرض المشمسة، والتراب الممزوج بالعرق والضوء. هذا الاختيار ليس عشوائياً، فالذهبي في التشكيل هو لون الخلود والذاكرة، والبني هو لون الخبرة والقدم، أما الأصفر الفاتح فهو لون الحياة التي ترفض أن تنطفئ. في هذه الدرجات، يدمج الياسري بين الدفء والحنين، ليخلق إحساساً بأن الزمن لا يمضي بل يتوهّج. فالوجه مضاء من الداخل، وكأن الضوء يخرج من تحت الجلد لا من الخارج، وهذا أسلوب بصري ذكي يعكس الفكرة الجوهرية في اللوحة. أن النور الحقيقي ينبع من التجربة الداخلية للإنسان. والعينان، المغمورتان بالظلال، تحملان لون الغروب - ذلك الغروب الذي لا يعني نهاية النهار، بل بداية التأمّل. إنهما عينا من رأى كثيراً ولم يفقد الدهشة. فهل ريشة الياسري تدمج بين اليد والعقل، بين الفنان والمفكر، بين الخيال والحجر؟

القباب والمنازل الصغيرة التي تحيط بالرجل ليست مجرد خلفية زخرفية، بل ذاكرته المعمارية لفنان أحب المدن التي سكنها، والأمكنة التي أحبها، والبيوت التي بناها بفكره. إنها امتداد لروحه، مثلما يمتدّ الحلم في الحالم، لا يفارقه أبداً. إذ يتعمّد الياسري المبالغة في بعض التفاصيل كتضخيم الرأس، اختزال الجسد، تبسيط الخطوط في الخلفية، ليخلق لغة تشكيلية رمزية تعبّر عن المعنى لا عن المظهر. فالوجه يكاد يتجاوز الحدود الواقعية ليصبح منحوتاً فكرياً، فيما الخلفية تبدو مائعة كأنها ذاكرة تتكوّن وتذوب. كما تتوازن اللوحة بين الدقة في الملامح والانسياب في الفراغ، وهذا التناقض المتناغم هو سرّ جاذبيتها. وسر واقعيتها التعبيرية. فهل الحوار بين الضوء والظل هو حوار بين الحياة والتجربة، بين الفرح والحكمة، بين الولادة والفناء؟ وهل الشيخوخة كقمة لا كهزيمة؟

في معظم الثقافات البصرية، يُصوَّر الشباب بوصفه ذروة الجمال، بينما تُهمّش الشيخوخة. لكن هنا، الفنان يقلب المعادلة: الشيخوخة هي القمة، هي الضوء الأخير الذي لا يبهت. الوجه المسنّ في اللوحة ليس جسداً متعباً بل معبداً من الذاكرة. كل خط فيه هو نقش، وكل ظلاله صلاة طويلة لزمنٍ أحبّ الإنسان رغم قسوته. ومن أجمل ما تقدمه هذه اللوحة هو الفكرة العميقة التي تربط الإنسان بالعمارة. الوجه هو المدينة الأولى، واليد تبنيها كما يبني المعماري جداراً أو قبة. فهل يريد الياسري القول أن الفنان هو المهندس الأول للعالم، لأنه يبنيه من داخله قبل أن يشيده بالحجر؟ وهل يمكن القول إنه المثقف الذي يعرف أن الإبداع مقاومة، وأن العمر الطويل ليس سوى دفتر لتجارب الوعي؟ فهل يقدّس الياسري في هذه اللوحة الوعي، الذاكرة، التجربة، والقدرة على الخلق رغم الشيخوخة؟

تُظهر هذه اللوحة توازناً رائعاً بين التحليل العقلي والإحساس العاطفي. إذ يستخدم الشكل الهندسي للعمارة ليعبّر عن الفكر المنظّم، ويستخدم دفء الألوان ليعبّر عن العاطفة. هكذا تمتزج الهندسة بالشعر، والعقل بالحبّ، في توليفة تجعل اللوحة قصيدة عقلانية أو فكراً مرسوماً بالحنين. فهذه اللوحة ليست مجرد استذكار لفنان، بل مرثية للزمن الجميل، وأناشيد للذاكرة الحيّة. إنها تختصر رحلة الإنسان في العمر والإبداع، من الطفولة إلى الحكمة، من المدينة التي يسكنها إلى المدينة التي تسكنه. فيها نرى أن الإنسان لا يموت حين يشيخ، بل حين يتوقف عن البناء. فهل هذه اللوحة مديح بصري للفنان بشكل عام؟ أم مديح للعقل الذي صمد، وللقلب الذي لم ييأس، وللذاكرة التي ظلت تحفظ دفء الأيام رغم العواصف؟