اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
بدأت المطالبة بإعادة ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، كاجتهاد قانوني قابل للبحث والنقاش، من قبل خبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة. لكنها تحولت إلى «لغم سياسي» في ملف العلاقات بين لبنان وقبرص ومن ورائها الاتحاد الأوروبي وأميركا. وربما في ملف الصراعات الداخلية والتصويب على العهد والحكومة. وتجلى ذلك بحملة متصاعدة تركز على «شعارات شعبوية» مثل التفريط بحقوق لبنان. والرضوخ للإملاءات الأميركية. وإحياء اتفاقية حكومة السنيورة لعام 2007. وصولاً إلى اتهامات “بالخيانة العظمى”.
فما هي حقيقة هذه المطالبة؟ وهل الترسيم الحالي أخلّ فعلاً بحقوق لبنان؟ وما هي أبعاد ومخاطر الاستغلال السياسي لاجتهاد قانوني يقبل الصواب والخطأ؟
الحقيقة بين القانون ودهاليز السياسةقبل الإجابة على المسائل القانونية، تجدر الإشارة إلى جسامة المخاطر السياسية. وأبرزها، إدخال لبنان في أتون النزاع الحدودي بين تركيا وقبرص واليونان، بأبعاده القانونية والسياسية وحتى العسكرية. لأن المساحة التي يطالب بها القائمون على الحملة تضم البلوكات القبرصية التي هي موضع نزاع مع تركيا. وللدلالة على خطورة هذا النزاع نشير إلى أن تركيا أرسلت بوارجها الحربية في 2018 لمنع سفينة حفر تابعة لشركة إيني الإيطالية من العمل في أحد هذه البلوكات. كما تقوم سفن الحفر والاستكشاف التركية بالعمل بشكل متواصل فيها.
وعليه، إذا كان تعطيل الترسيم مع قبرص يخدم مصالح تركيا، التي تطالب لبنان منذ العام 2007 بذلك، فما هي مصلحة لبنان؟
اربعة من اصل 10 بلوكات ستكون موضع نزاع مع قبرصتعديل المرسوم 6433 وليس اتفاقية 2007تتلخص أهداف الحملة بالمطالبة بتعديل المرسوم 6433، وليس بتعديل اتفاقية 2007، كما يشيع البعض. وتستند الحملة في الجانب القانوني على أن المنهجية المعتمدة والمتعارف عليها دولياً أي خط الوسط، لم تأخذ بالاعتبار ما يعرف بالظروف الخاصة ومن بينها تناسب طول الشاطئ بين قبرص ولبنان. وتشير إلى أن طول الشاطئ اللبناني باعتماد الخط المستقيم بدون التعرجات، يبلغ حوالي 180 كلم مقابل 103 كلم للشاطئ القبرصي أي بمعدل (1.8 إلى 1). علماً أن حصة لبنان بموجب الترسيم الحالي هي حوالي 17.5 ألف كلم2 مقابل 13.8 ألف كلم2 لقبرص.وبناءً على مبدأ عدم تناسب طول الشاطئ، اعتمد القائمون على الحملة منهجية حسابية بسيطة للمطالبة بدفع خط الوسط غرباً باتجاه قبرص. ما يؤدي إلى زيادة حصة لبنان بنحو 2600 كلم2. وهناك من يرفعها إلى 5000 كلم2.
أولاً: توضيح لتجنب الجدل حول السند القانوني تجنباً للتأويلات والجدالات القانونية، في تقييم قوة السند القانوني للمطالبة بإعادة الترسيم بالاستناد إلى معيار تناسب طول الشاطئ، نشير إلى مسألتين واحدة تصنف في خانة “ما له”والثانية في خانة “ما عليه”:
“ما له”:ينص قانون البحار على أن المنهجية المعتمدة لترسيم الحدود البحرية تبدأ بخط الوسط. وتم لاحقاً تطوير هذه المنهجية بالتدوين والتقنين codification ومن خلال السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية ومحاكم التحكيم، لتتضمن ما يعرف بالمعايير المنصفة equitable criteria. والهدف هو معالجة ما يوصف بعدم الإنصاف المفرط gross disproportion. وتم اعتماد ثلاث خطوات للترسيم هي:
رسم خط الوسط باعتماد نقاط متساوية الأبعاد انطلاقاً من خطوط الأساس .بحث الظروف الخاصة: التي تؤدي إلى عدم الإنصاف. وتشمل مروحة واسعة من العوامل والمتغيرات الاقتصادية والتاريخية والديموغرافية والاجتماعية. إضافة إلى العوامل الجغرافية وهي الأهم، والتي تتضمن على سبيل المثال: وجود جزر ذات تأثير واضح على الترسيم، شكل الشاطئ (محدب، أو مقعر أي وجود خليج كبير)، الاتجاه العام للشاطئ. إضافة إلى طول الشواطئ وهو ما تعتمد عليه حملة المطالبة بتعديل المرسوم 6433.اختبار التناسب: يتم اعتماد هذه الخطوة من قبل المحاكم الدولية بهدف التأكد من وجود عدم تناسب مفرطرسم يوضح عمق تأثير شكل الساحل (مقعر أم محدب) الذي يعتد به ضمن الظروف الخاصة… و “ما عليه”نكتفي بالإشارة بالنص الحرفي إلى بعض الحقائق والتعريفات الواردة مراراً وتكراراً في مواد قانون البحار، وفي عشرات السوابق القضائية. والهدف تجنب الجدال ووضع حد للاستخدام المتعمد لجمل مجتزأة من مواد قانون البحار على طريقة «لا تقربوا الصلاة…» وأهمها ما يلي:• أن «التعيين المنصف للحدود ليس مسألة تقسيم وتقاسم أو توزيع حصص بين الدول» … «بما يتناسب مع طول سواحلها».• أن «معدل التناسب يستهدف معالجة حالات محددة تنجم عن تشكيلات أو معالم في حالات جغرافية معينة»، وهو بالتالي «يستخدم كمعيار أو عامل ذي صلة لتقييم مدى الإنصاف. وليس كمبدأ عام يوفر منهجاً مستقلاً لإسناد أي مناطق وحقوق في الجرف القاري».• أن «عدم التناسب disproportion ليس مسألة رياضية جامدة». وتؤكد المحاكم الدولية بالنص الصريح في عشرات القضايا أن التناسب هو أداة تحقق reasonableness check، وليس قاعدة رياضية للترسيم.• طول الشاطئ هو مجرد متغير واحد من عدة متغيرات لتحقيق الإنصاف، ولا يصح اعتباره منهجية مختلفة عن منهجية خط الوسط.
ترسيم بحسب معيار عدم تناسب أطوال الشواطئ مع مساحة 2600 كلم2ثانياً: هل هناك قوة قانونية للمطالبة بإعادة الترسيم؟إذا كان المقصود طرح الموضوع كبند في المفاوضات مع قبرص. أو افتعال مشكلة معها، وتصعيد الخلاف وصولاً إلى المحاكم الدولية، فالجواب هو «نعم».لكن إذا كان المقصود إقناع قبرص بالتنازل أو المساومة. أو كسب دعوى ضدها أمام المحاكم الدولية، فمع أنه لا يحق لنا الإجابة بـ «كلا بالتأكيد». لكن يحق لنا استعراض بعض الحقائق استناداً إلى ما سبق توضيحه، تاركين لأصحاب الشأن الوصول إلى هذا الجواب بالاستدلال والاستنتاج. وأهم هذه الحقائق ما يلي:
عنصر واحد من عشرات العناصر:من ضمن عشرات العناصر المكونة للظروف الخاصة الموزعة على عدة مجموعات، هناك عنصر واحد هو طول الشاطئ، ضمن مجموعة واحدة هي العوامل الجغرافية، ينطبق على الحالة اللبنانية. في حين يستدل من الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية أنها تأخذ بالاعتبار عادة تضافر عدة عوامل للحكم بوجود حالة من «عدم التناسب المفرط» تستدعي تعديل خط الوسط. وحتى هذا العامل الوحيد يعاني من ثغرتين رئيسيتين هما:
أ. طريقة احتساب طول الشاطئ القبرصي: تم اعتماد طول الشاطئ القبرصي بأضيق الاحتمالات أي من رأس اكروتيري جنوباً، إلى رأس غريكو المقابل لمصب النهر الكبير شمالاً. في حين يمكن لقبرص إثارة جدل قانوني يستند إلى مواد قانون البحار وإلى سوابق قضائية، باحتساب نقطتين أبعد جنوباً وشمالاً. ما يجعل الشاطئ القبرصي أطول من اللبناني.ب. ضآلة معدل عدم التناسب: مع التسليم جدلاً، بصحة احتساب طول الشاطئ القبرصي، فإن معدل عدم التناسب وهو (1.8 إلى 1) يعتبر ضئيلا ولا يعتد به أمام المحاكم الدولية. ولا يوجد ولو قضية واحدة حكمت فيها لجان التحكيم أو محكمة العدل الدولية أو محكمة قانون البحار، بتعديل خط الوسط استناداً إلى عنصر طول الشاطئ فقط إذا كان يقل عن (4 إلى 1). وذلك باستثناء قضية خليج ماين. مع المسارعة للتوضيح أنه تم اعتماد كامل طول الشاطئ الأميركي. ولو تم اعتماد لذلك في حالة لبنان لكان الشاطئ القبرصي أطول بكثير من اللبناني.
وهناك عشرات القضايا المتعلقة بأطوال الشواطئ التي نظرتها المحاكم الدولية مثل : أوكرانيا ـ رومانيا: كان المعدل (3 إلى 1)، الصومال ـ كينيا كان المعدل (5.5 إلى 1) وجاء الحكم لا مبرر للتعديل. في حين جاء الحكم بقضية ليبيا ـ مالطا بإجراء تعديل جزئي رغم أن المعدل كان (8 إلى 1).
2. الديموغرافيا والجغرافيا
تصور آخر للترسيم يرفع المساحة إلى 5000 كلم2يعتبر القائمون على الحملة أن قبرص جزيرة ولا يحق لها بمنطقة اقتصادية وجرف قاري كبقية الدول ذات السواحل القارية. وذلك اعتبار منطقي بدون شك، ولكن لا يوجد له أي سند في قانون البحار. بل بالعكس، يتناقض مع ما ورد في هذا القانون. إذ نصت المادة 121 حرفياً على: «يحدد البحر الإقليمي للجزيرة ومنطقتها الاقتصادية الخالصة وجرفها القاري وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية المنطبقة على الأقاليم البرية الأخرى».
والأهم أن هذا الطرح يتناقض مع واقع الترسيم بين دول شرق المتوسط (قبرص ومصر وإسرائيل، واليونان). حيث تم اعتماد خط الوسط بدون الأخذ بظروف خاصة تتعلق بطول الشواطئ. وقبول قبرص، بمجرد البحث في هذه المسألة سيفتح «أبواب جحيم» النزاعات الحدودية مع تركيا، ودونه حروب وويلات وليس دعاوى قضائية فقط. كما سيعيد فتح ملفات الترسيم مع مصر وإسرائيل. وهو أمر لن تقبل به أوروبا وأميركا مهما كان الثمن.وينطبق هذا التناقض على عدم التناسب الديمغرافي، باعتبار أن عدد السكان في لبنان أكبر. ولو صح ذلك لكان الأجدر أن يؤخذ به بالترسيم مع مصر وإسرائيل.
3. حقيقة الاستناد إلى الجيش ووزارة الخارجيةتصدر تصريحات عن شخصيات ومسؤولين تفيد بأن هذه المطالبة تستند إلى دراسات صادرة عن الجيش اللبناني ووزارة الخارجية. وذلك كلام يحتاج إلى تدقيق. فمصلحة الهيدروغرافيا في الجيش تقوم بحكم اختصاصها أو بناءً على طلب إحدى الجهات الرسمية، بوضع إحداثيات ورسم خطوط تأخذ بالاعتبار مختلف المتغيرات لتكوين صورة واضحة عن تأثير كل متغير. ولكن لا يصح مطلقاً القول إن هذا الخط أو ذاك هو عبارة عن دراسة صادرة عن الجيش ما لم يتم اعتماده من قيادة الجيش. والحقيقة أن موقف المؤسسة العسكرية يعبر عنها ممثل المؤسسة في لجنة ترسيم الحدود.وينطبق ذلك على ما يقال عن وجود دراسة صادرة عن وزارة الخارجية. فالوزارة لا تصدر دراسات عن ترسيم الحدود، وإذا كانت تحتفظ في أرشيفها، بدراسة أعدها أحد المكاتب الاستشارية، فلا يجوز القول أنها صادرة عن وزارة الخارجية.
الاستعانة بخبرات رودريغر وولفرومخيراً فعلت الجهات المعنية، بالاستعانة بالخبير الدولي المرموق رودريغر وولفروم، الذي شغل قبل عقدين من الزمن تقريباً، منصب رئيس محكمة البحار. وهو يعمل حالياً، كمدير فخري مسؤول عن أسواق المغرب والسودان، في مؤسسة ماكس أند بلانك. وذلك بهدف “وضع النقاط على الحروف” في الكلام المنسوب له.ولكن يجدر لفت نظر السادة أعضاء لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية خلال اجتماعهم مع البروفيسور وولفروم، إلى أهمية توجيه سؤال محدد له، عن «حظوظ لبنان بكسب دعوى أمام المحاكم الدولية استناداً إلى معيار تناسب طول الشواطئ». وليس إذا كان يمكن رفع مثل هذه الدعوى. وعما إذا كان قد حصل على المعلومات والمعطيات الدقيقة من الجهات الرسمية المعنية في لبنان. فالجواب على السؤال الثاني معروف، وهو «نعم» كما سلفت الإشارة. ولا داعي مطلقاً لتحميل البروفيسور وولفروم أعباء السفر وقد شارف التسعين من عمره للإجابة على هذا السؤال . خاصة وأن هناك دراسات تؤيد المطالبة بإعادة الترسيم، أعدها خبراء لبنانيون يتمتعون بالنزاهة والكفاءة والوطنية والترفع عن الأمور المالية، وفي مقدمهم العميد الركن المتقاعد خليل الجميل.
معلومات موثقة لمن يرغبحبذا لو يبادر أعضاء اللجنة إلى الاطلاع على كافة هذه التفاصيل وهي متوفرة باللغة العربية على موقع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون قانون البحار. والإطلاع أيضاً على وثيقة شاملة بعنوان «دليل تعيين الحدود البحرية»، أعدتها شعبة شؤون المحيطات وقانون البحار التابعة لمكتب الشؤون القانونية بالأمم المتحدة. وقامت بتعريبها الأمانة العامة لمجلس شؤون الحدود في دولة الإمارات العربية المتحدة.