اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الدين العام: جدل الاستدامة بين الأرقام والسياسات
د. عدلي قندح
إن موضوع الدين العام يمثل إحدى القضايا الاقتصادية المحورية التي لا تخلو من الجدل المستمر، إذ يتأرجح النقاش حوله بين القلق المشروع الذي يساور المواطن إزاء تضخم الأرقام المطلقة والنسب المئوية، وبين التحليل الاقتصادي الذي يسعى لوضع هذه الأرقام في سياقها الصحيح. ومع كل نشرة رسمية تصدر عن وزارة المالية أو البنك المركزي، تتجدد المخاوف، مما يلقي على عاتق الحكومة مسؤولية تقديم خارطة طريق واضحة ومفصلة لمعالجة هذا الملف، ودرء التأويلات غير المنطقية التي قد تضر بالثقة الاقتصادية. إن فهم هذه القضية يتطلب التعمق في مفهوم جوهري هو 'استدامة الدين العام”، وتحديد المعايير الاقتصادية التي تحكمه، للخروج برؤية شاملة وواقعية تتجاوز مجرد الإشارة إلى حجم الدين.
استدامة الدين العام: المفهوم والمعايير
لا يقتصر مفهوم استدامة الدين العام على القدرة اللحظية للدولة على سداد أقساطها وفوائدها. بل هو مفهوم أعمق وأكثر شمولاً، يركز على المسار المستقبلي للسياسات المالية. فوفقاً للتعريف الذي يتبناه صندوق النقد الدولي (IMF)، يُعتبر الدين العام مستداماً إذا كانت الدولة قادرة على الوفاء بجميع التزاماتها المالية الحالية والمستقبلية دون أن تضطر إلى اللجوء إلى مساعدة مالية استثنائية، أو أن تتخلف عن السداد [1]. وهذا يعني أن المسار المالي للدولة يجب ألا يؤدي إلى تراكم الديون بمعدلات تهدد الاستقرار المالي الكلي، أو تفرض إجراءات تقشفية قاسية من شأنها أن تعيق النمو الاقتصادي أو التنمية الاجتماعية.
إن تقييم الاستدامة لا يعتمد على مؤشر واحد، بل هو نتاج تفاعل مجموعة من العوامل الديناميكية المعقدة. ولعل أبرز هذه العوامل هو العلاقة بين معدل النمو الاقتصادي الحقيقي (g) ومعدل الفائدة الحقيقي على الدين (r). فإذا كان معدل النمو الاقتصادي يتجاوز تكلفة الاقتراض، يصبح الدين أسهل في الخدمة، وتستقر نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي أو تبدأ في التراجع. أما العامل الثاني فهو الرصيد الأولي (Primary Balance)، الذي يمثل الفارق بين الإيرادات الحكومية والنفقات الحكومية باستثناء مدفوعات الفائدة. ولكي يكون الدين مستداماً، يجب أن يكون هذا الرصيد إيجابياً وكافياً لتغطية تكاليف الفائدة. كما أن هيكل الدين يلعب دوراً حاسماً، حيث تزيد نسبة الدين الخارجي (المقوّم بالعملة الأجنبية) من مخاطر تقلبات سعر الصرف، بينما يؤدي قصر آجال الاستحقاق إلى زيادة مخاطر إعادة التمويل. وأخيراً، تظل قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات الخارجية، كالأزمات الإقليمية أو الجوائح، دون تدهور حاد في نسبة الدين، مؤشراً قوياً على صلابة الاستدامة.
النسبة السحرية للدين إلى الناتج المحلي الإجمالي
في سياق البحث عن معيار كمي، يبرز مؤشر نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي (Debt-to-GDP) كأكثر المؤشرات شيوعاً. ومع ذلك، لا يوجد رقم 'سحري” أو معيار عالمي موحد يصلح لجميع الدول. فالنسبة المستدامة تتحدد بناءً على القدرة الاستيعابية للدين (Debt-Carrying Capacity) لكل اقتصاد، والتي يحددها صندوق النقد والبنك الدوليان بناءً على عوامل نوعية مثل جودة المؤسسات، وسجل الدولة في الالتزام بالسداد، ومستوى التنمية.
على سبيل المثال، حددت اتفاقية ماستريخت في الاتحاد الأوروبي نسبة 60% كحد أقصى استرشادي للدين العام. في المقابل، تستطيع الدول المتقدمة تحمل نسب أعلى بكثير، حيث تتجاوز اليابان نسبة 200%، والولايات المتحدة تتجاوز 100%، وذلك بفضل قوة عملاتها وثقة المستثمرين. أما الدول النامية وذات الدخل المتوسط، فعتبة تحملها أقل، وقد تتراوح بين 35% إلى 55% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لأطر تحليل استدامة الدين المتبعة. الخلاصة هنا هي أن الدين يصبح مستداماً عندما تتجاوز قدرة الدولة على توليد الإيرادات (النمو الاقتصادي والرصيد الأولي) تكلفة خدمة الدين.
تقييم استدامة الدين في الأردن
بالنظر إلى الحالة الأردنية، يمكن تحديد عدة عوامل تدعم قدرة المملكة على إدارة دينها بكفاءة. أولاً، يتمتع الأردن بسجل قوي من الالتزام بالسداد، حيث لم يتخلف عن سداد أي دين داخلي أو خارجي منذ عام 1989، بما في ذلك سداد سندات اليوروبوند في أصعب الظروف، مما يعزز ثقة المؤسسات الدولية. ثانياً، يضمن الارتباط ببرامج هيكلية مع صندوق النقد الدولي الحصول على تمويل بفوائد ميسرة، وهو ما يقلل بشكل مباشر من تكلفة خدمة الدين (r). ثالثاً، هناك انضباط واضح في إدارة التدفقات النقدية، حيث أن الجزء الأكبر من الاقتراض الحكومي هو في الواقع إعادة تمويل لالتزامات قائمة، وليس زيادة صافية في الدين. فالزيادة الفعلية تقتصر على تمويل العجز المالي، المقدر بـ 2.1 مليار دينار في مشروع موازنة 2026.
ومع ذلك، يظل التحدي الأبرز هو النسبة المرتفعة للدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت حوالي 91.2% في سبتمبر 2024. هذه النسبة تضع الاقتصاد في منطقة 'الحساسية العالية” للصدمات الخارجية أو ارتفاع أسعار الفائدة، خاصة وأن النمو الاقتصادي المتوقع (g) لعام 2025 لا يتجاوز حوالي 2.5%. فإذا تباطأ النمو أو ارتفعت تكلفة الاقتراض، فإن عبء الدين سيزداد بسرعة.
الخلاصة: نحو الاستدامة النشطة
إن التحول في النقاش حول الدين العام يجب أن يتجه نحو التركيز على مفهوم 'الاستدامة النشطة”. فبدلاً من الاكتفاء بالقدرة على السداد، يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي للحكومة هو خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملموس ومستدام.
ويتطلب ذلك ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، تعزيز النمو الاقتصادي (g)، من خلال تسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية لرفع معدل النمو إلى مستويات تتجاوز 4%، ليكون أعلى من معدل الفائدة الحقيقي على الدين. ثانياً، ضبط النفقات الجارية وتحسين كفاءة الإنفاق العام لتقليل العجز المالي. ثالثاً، إدارة المخاطر من خلال العمل على إطالة متوسط عمر الدين وزيادة الاعتماد على الاقتراض الداخلي لتقليل التعرض لمخاطر سعر الصرف. إن الإدارة المالية الحكيمة تتطلب الاستمرار في الانضباط المالي مع تحقيق نمو اقتصادي قوي ومستدام، يضمن تراجع نسبة الدين إلى مستويات أكثر أماناً على المدى الطويل.












































