اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
الإدارة المدنية الانتقالية.. وجه الاحتلال الذي يتجمّل بالدبلوماسية
كتب زياد فرحان المجالي -
في الحروب الطويلة، لا ينتهي الاحتلال حين تسكت المدافع، بل حين ينجح في البقاء بلا مدافع.
وهذا بالضبط ما تحاول إسرائيل فعله اليوم في غزة: أن تُبقي سيطرتها قائمة، لكن بملامح جديدة، ناعمة، تُغلفها بورقٍ دبلوماسي اسمه 'الإدارة المدنية الانتقالية”.
من يقرأ الوثيقة الصادرة عن لجنة الأمن القومي الإسرائيلي، يدرك أنّ فكرة 'اليوم التالي” ليست بحثًا عن حلّ، بل عن تجميلٍ للاحتلال.
فالخطة تنصّ على إنشاء إدارةٍ مدنية بإشراف إسرائيلي غير مباشر، تضمّ عناصر من السلطة الفلسطينية وبعض الوجوه المحلية، وربما بغطاءٍ عربي محدود، على أن تبقى السيطرة الأمنية المطلقة بيد الجيش الإسرائيلي.
أي أنّ الاحتلال سيغادر من الباب السياسي ليعود من النافذة الأمنية.
توصي اللجنة في نصّها بوضوح:
'يجب أن تُدار غزة عبر مجالس محلية تشرف على الخدمات فقط، بينما تبقى إسرائيل الضامن الأمني لمنع إعادة إنتاج حماس.”
تبدو العبارة تقنيّة، لكنها تحمل في طياتها كل فلسفة الاحتلال الحديثة: أن يحكم من وراء الستار، وأن يجعل الفلسطينيين شركاء في إدارة قيودهم.
من منظورٍ سياسي، هذا النموذج ليس جديدًا؛ فقد جرّبته إسرائيل في الضفة الغربية منذ عقود، حيث صارت السلطة الفلسطينية إدارةً مدنية مقيدة داخل منظومة أمنية إسرائيلية واسعة.
الفرق الوحيد أنّ غزة أكثر حساسية وأشد رمزية، لأنّها باتت رمزًا للفشل العسكري الإسرائيلي، وأيّ إدارةٍ جديدةٍ فيها ستكون محاولةً لترميم الهيبة لا لترميم الحياة.
الوثيقة تذهب أبعد من ذلك، إذ توصي بضرورة 'بناء تواصلٍ إعلاميٍ دولي لتبرير استمرار الدور الإسرائيلي تحت عنوان منع الفراغ الأمني”.
أي أن إسرائيل تدرك تمامًا أن بقاءها هناك يحتاج إلى تسويقٍ سياسيٍّ جديد، يُقنع العالم بأنّ الاحتلال ضرورةٌ مؤقتة، لا جريمةٌ دائمة.
بهذا الشكل، تتحول 'الإدارة المدنية” إلى غلافٍ لغويٍّ ناعمٍ لاحتلالٍ مستمرّ، وإلى حيلةٍ سياسيةٍ تُخفي حقيقة أنّ السيادة ما زالت في يد تل أبيب.
في الظاهر، يبدو أن واشنطن وبعض العواصم الأوروبية والعربية تتابع هذه الفكرة بحذر.
لكنّ المدهش أنّ إسرائيل لا تبحث عن شركاء حقيقيين بقدر ما تبحث عن واجهاتٍ تُعلق عليها مسؤولية المستقبل.
فهي تريد أن تبقى صاحبة القرار الأمني والاقتصادي، بينما يتحمل الآخرون كلفة الإعمار، والغضب الشعبي، وأعباء الإدارة اليومية.
إنها صيغة 'الاحتلال بالوكالة” — الأكثر راحة والأقل كلفة، والتي تتوافق مع المزاج الدولي الساعي إلى تهدئة شكلية لا تُزعج أحدًا.
لكن في عمق هذا المشهد، تتجلى معضلة أعمق:
كيف يمكن لدولةٍ تُعلن أنها انتصرت، أن تخشى الفراغ في منطقةٍ صغيرةٍ لا تتجاوز أربعين كيلومترًا؟
الجواب واضح: لأنها لم تنتصر.
فالخوف من 'الفراغ الأمني” ليس إلا اعترافًا بأن حماس لم تُهزم، وأنّ السيطرة على غزة ليست ممكنة إلا عبر استمرارٍ دائم للقبضة الأمنية.
لذلك جاء اقتراح 'الإدارة المدنية” كحلٍّ تجميلي يضمن لإسرائيل أن تبقى حاضرةً دون أن تُتّهم بالبقاء.
ولعلّ الأخطر في الوثيقة أنها تتحدث عن إشراك السلطة الفلسطينية 'في حدود معينة”، بشرط ألّا تمتد صلاحياتها إلى الأمن أو الحدود أو السياسة الخارجية.
أي أنها ستتحمل المسؤولية أمام الناس، دون أن تملك القرار الحقيقي.
إنه نوعٌ من التفويض الإداري المقيّد، يُحوّل الفلسطيني إلى موظفٍ في نظامٍ صممه خصمه.
في هذا السياق، يمكن القول إنّ خطة 'الإدارة المدنية” ليست سوى استكمالٍ لحربٍ فشلت إسرائيل في كسبها عسكريًا.
فبعد عامين من القصف والاجتياح، لا تزال تبحث عن شكلٍ يُعيد لها صورة السيطرة.
إنها تحاول أن تشتري الهدوء الإداري بعد أن خسرت الهدوء الأمني، وأن تُعيد رسم المشهد بمفرداتٍ تبدو إنسانية لكنها محمّلةٌ بالهيمنة.
تمامًا كما فعلت في تجاربها السابقة مع 'المنسق المدني” و”الإدارة العسكرية” في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت كل إدارةٍ جديدةٍ تُقدم للعالم كدليلٍ على 'تخفيف المعاناة”، لكنها في الحقيقة كانت ترسّخ الاحتلال أكثر.
من وجهة نظر فلسطينية، هذه الخطة ليست سوى فخٍّ جديدٍ باسم الإعمار.
فمن يقبل بها يُصبح شريكًا في شرعنة الوجود الإسرائيلي.
والذين يتحدثون اليوم عن 'الحلول المرحلية” يعلمون أن المراحل في السياسة الإسرائيلية لا تنتهي، بل تتجدد بأسماء مختلفة.
ولذلك فإنّ الخطر لا يكمن في المشروع نفسه، بل في قبول العالم له باعتباره 'الواقع الممكن”.
أما في الشارع الغزّي، فلا أحد ينتظر 'إدارة انتقالية”.
فالناس هناك تعلم أن الاحتلال لا يسلّم السلطة إلا إذا تأكد من أنه سيستلمها ثانيةً بأدواتٍ أخرى.
ومن يعايشهم يدرك أن الفلسطينيين، مهما أُنهكوا، لا يريدون وصايةً جديدة، ولا إدارةً ترفع علمًا عربيًا وتخفي علم الاحتلال خلفها.
إنهم يريدون حياةً حرة، لا نظامًا مدنيًا يُدار من مكتبٍ في تل أبيب.
وفي النهاية، تظلّ 'الإدارة المدنية الانتقالية” جزءًا من معركةٍ أوسع تدور حول تعريف السيادة في غزة.
هل هي حقٌّ لشعبٍ نازفٍ يريد أن ينهض من رماده، أم رخصةٌ تمنحها قوة الاحتلال لمن تشاء؟
الجواب في الشوارع التي لا تزال تمتلئ بالأنقاض وبالأمل، وفي وجوهٍ تعرف أن الحرية لا تُدار بقرارات لجان، بل تُنتزع كما تُنتزع الحياة من بين الركام.












































