اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
حين يختلط مفهوم الدولة بمفهوم السلطة: قراءة في دلالات خطاب رئيس مجلس النواب #عاجل
كتب د. معن علي المقابلة -
أثار التصريح الأخير لرئيس مجلس النواب الأردني، الجنرال مازن القاضي، نقاشاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، لما حمله من نبرة حازمة أقرب إلى الخطاب العسكري منها إلى اللغة السياسية. وقد بدا واضحاً أن خلفية الرجل الأمنية والعسكرية انعكست على طريقته في التعبير، بحيث غلب الطابع الآمر على ما يُفترض أن يكون خطاباً تشاركياً ودبلوماسياً يتناسب مع طبيعة العمل البرلماني.
ورغم أن من الإنصاف عدم تحميل التصريح أكثر مما يحتمل، فقد يكون اختيار المفردات هو ما أثار الجدل، إلا أن ما يستوقف المتابع هو ما يكشفه هذا الخطاب من خلطٍ واضح بين مفهومي الدولة والسلطة. فالتعريف العلمي للدولة يستند إلى ثلاثة عناصر رئيسية: الأرض، والشعب، والسلطة القادرة على إدارة الإقليم بشكل فعّال. أما السلطة، فهي أداة من أدوات الدولة وليست كياناً موازياً أو بديلاً عنها. غير أن هذا التماهي بين المفهومين، أي اعتبار أن السلطة هي الدولة ذاتها، عادةً ما يظهر في البيئات السياسية غير الديمقراطية، حيث تُختزل الدولة في شخص الحاكم أو في مؤسسة الحكم، كما عبّر عن ذلك لويس الرابع عشر بقوله الشهير: 'أنا الدولة والدولة أنا.”
هذا الفهم، على ما يبدو، لم يغب تماماً عن الممارسة السياسية الأردنية الحديثة. فطوال العقود الماضية، ساهمت الدولة العميقة ومراكز النفوذ في ترسيخ نمط إداري يقوم على تداخل السلطات وتغوّل السلطة التنفيذية تحت مبرر 'التكاملية”، التي تحوّلت عملياً إلى تبعية مؤسسية تجعل السلطتين التشريعية والقضائية في موقع المساندة لا المراقبة. وتجلّى ذلك في الخطاب البرلماني الذي بات، في كثير من الأحيان، يُعبّر عن مواقف الحكومة أكثر مما يُعبّر عن إرادة الناخبين الذين منحوا النواب شرعيتهم.
إن تحول بعض النواب إلى مدافعين عن الحكومة، أو ناطقين باسمها، يمثل مؤشراً على اختلال التوازن بين السلطات، وهو ما يتناقض مع جوهر النظام النيابي الملكي الدستوري الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وتكاملها في إطار الرقابة والمساءلة. كما أن تصوير المعارضة السياسية أو البرلمانية على أنها 'عبء على الدولة” أو 'إعاقة لمسيرة الإصلاح” يعكس فهماً ضبابياً للديمقراطية ومحدودية في استيعاب فكرة التعددية السياسية.
ولعل المقارنة مع الملكيات الدستورية الراسخة، كالنظام البريطاني، تبرز الفارق في الممارسة. فالمعارضة هناك ليست خروجاً على الدولة، بل جزء أصيل من بنائها المؤسسي. بل إن زعيم المعارضة يُمنح راتباً إضافياً ويُعتبر 'رئيس وزراء بديلاً” بحكم دوره في مراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها. هذه المقاربة تُظهر أن قوة الدولة لا تُقاس بمدى الانضباط حول السلطة، بل بقدرتها على استيعاب النقد والمعارضة في إطار مؤسسي منظم.
أما في التجربة الأردنية، فما زال مفهوم 'الاستقالة السياسية” غائباً إلى حد كبير. فعلى مدى العقود الماضية، نادراً ما شهدنا استقالات وزراء أو نواب لأسباب تتعلق بالمسؤولية الأخلاقية أو الموقف السياسي. وحتى في الحالات القليلة التي حدثت، كما في حادثة سيول البحر الميت عام 2018 التي أودت بحياة عدد من الطلبة، فإن الوزراء المستقيلين عادوا لاحقاً لتولي مناصب وزارية، الأمر الذي أفقد فكرة المساءلة معناها العملي. كما أن التعامل مع استقالات النواب، كما في حالتي أسامة العجارمة ومحمد عناد الفايز، كشف عن أن الاستقالة تُفهم سياسياً وكأنها 'فصل” أو 'عقوبة”، لا تعبيراً ديمقراطياً عن موقف أو قناعة.
في هذا السياق، يصبح تصريح رئيس مجلس النواب عن أن 'الدولة تُدار من خلال مايسترو يضبط إيقاع الجميع” تعبيراً دقيقاً – وإن كان غير مقصود – عن نمط إدارة الدولة القائم على الضبط والإيقاع الواحد، لا على التنوع والتعدد في الرأي والموقف. فالمواطنة الفاعلة لا تقوم على الانضباط التام خلف السلطة، بل على المشاركة النقدية والمساءلة المسؤولة.
إن الخلط بين الدولة والسلطة ليس مجرد خطأ لغوي أو اصطلاحي، بل هو إشكالية بنيوية في الفكر السياسي العربي المعاصر، تؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أذرع تنفيذية للسلطة القائمة. فالدولة الحديثة لا تُدار بمنطق القيادة والسيطرة، بل بمنطق المشاركة والرقابة والمساءلة. وإذا استمر هذا الخلط في الخطاب والممارسة، فإن النتيجة ستكون مزيداً من تآكل المسافة الضرورية بين الحاكم والمحكوم، وتراجعاً في ثقة المواطنين بمؤسساتهم العامة.
⸻
توصيات ختامية وتحليل سياساتي
إن تجاوز هذا الخلل البنيوي في فهم العلاقة بين الدولة والسلطة يتطلب معالجة فكرية ومؤسسية متوازية، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1.إعادة ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات من خلال مراجعة التشريعات الناظمة للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتعزيز استقلالية مجلس النواب في أداء دوره الرقابي بعيداً عن تأثير الحكومة.
2.تطوير الثقافة السياسية لدى النخب والمسؤولين عبر برامج تدريبية وسياسات تأهيل تستهدف فهم مفهوم الدولة الحديثة ودور المواطن فيها، بما ينسجم مع قيم الدستور ومبدأ سيادة القانون.
3.تعزيز مكانة المعارضة السياسية والبرلمانية وضمان حقها في التعبير والمساءلة دون وصمها بمعاداة الدولة، على غرار التجارب الديمقراطية الراسخة في الملكيات الدستورية.
4.إعادة الاعتبار لمفهوم المسؤولية السياسية من خلال تشجيع ثقافة الاستقالة الطوعية عند التقصير، وربط المناصب العامة بمبدأ المساءلة لا الولاء الشخصي.
5.تفعيل دور الإعلام ومراكز الدراسات في نشر الوعي المدني والسياسي، وفتح نقاش عام حول طبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها بما يعزز شرعية المؤسسات لا هيمنة الأفراد.
ختاماً، فإن بناء دولة ديمقراطية حديثة لا يتحقق بالشعارات ولا بالضبط الإداري، بل بتوازنٍ دقيق بين السلطة والمسؤولية، وبوجود مؤسسات قادرة على ممارسة النقد الذاتي دون خوف، ومعارضة وطنية يُنظر إليها كشريك في الإصلاح لا كخصم سياسي. فالدولة التي تستوعب النقد وتُحسن إدارة التعدد، هي الدولة التي تضمن لنفسها الاستقرار الحقيقي والمستقبل الآمن.












































