اخبار اليمن
موقع كل يوم -صحيفة ٤ مايو الالكترونية
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
4 مايو/ تقرير/ محمد الزبيري
في مشهد يعيد للأذهان وهج الثورات الكبرى، تحولت محافظة الضالع، أيقونة النضال الجنوبي اليوم إلى قبلة لملايين الجنوبيين الذين زحفوا من كل حدب وصوب لإحياء الذكرى الثانية والستين لثورة 14 أكتوبر 1963 المجيدة.
لم تكن هذه مجرد احتفالية بروتوكولية، بل استفتاءً شعبياً حياً على الأرض، جدد فيه الجنوبيون عهدهم وثقتهم بالمشروع الوطني الذي يقوده المجلس الانتقالي الجنوبي ورئيسه، عيدروس قاسم الزُبيدي.
وبحضوره الشخصي وكلمته التاريخية التي ألقاها من قلب الحشود، لم يكتفِ الزُبيدي بإحياء ذكرى الماضي، بل رسم بوضوح ملامح المستقبل، مطلقاً من 'مهد الثورة' رسائل متعددة الأبعاد للداخل الجنوبي، والشركاء الإقليميين، والمجتمع الدولي، مؤكداً أن قطار استعادة الدولة قد انطلق بلا رجعة، وأن الجنوب اليوم، بتلاحمه ووحدة صفه، أقوى من أي وقت مضى.
*الضالع دلالات المكان والزمان في معادلة التحرير
لم يكن اختيار محافظة الضالع لاحتضان الفعالية المركزية محض صدفة، بل كان قراراً يحمل في طياته رمزية سياسية وعسكرية وتاريخية عميقة. فالضالع، التي تُعرف بأنها 'بوابة الجنوب الشمالية' ليست مجرد جغرافيا؛ إنها عقيدة قتالية ورمز للصمود الأسطوري.
هي المحافظة التي تحطمت على صخور جبالها الشماء أطماع ومشاريع القوى المعادية للجنوب على مر العقود، بدءاً من الاستعمار البريطاني وصولاً إلى الميليشيات الحوثية.
إن إقامة هذا الحشد المليوني في الضالع هو بمثابة رسالة تأكيد على أن الروح القتالية التي دحرت المحتل البريطاني وتحررت كأول منطقة جنوبية لا تزال متقدة في وريد كل جنوبي.
كما أن اختيار هذا التوقيت، في ظل تعقيدات المشهد اليمني والإقليمي، يبعث برسالة مفادها أن القضية الجنوبية لا تخضع للمساومات أو متغيرات السياسة، وأنها ثابت أساسي في أي معادلة قادمة للسلام والاستقرار في المنطقة.
إنها عودة رمزية إلى 'الرحم الأول للثورة' لتجديد الشرعية النضالية واستلهام القوة للمضي قدماً في المرحلة الحاسمة من مسيرة التحرير.
*حشود مليونية واستفتاء شعبي على مشروع الدولة
منذ فجر يوم الإثنين، 13 أكتوبر 2025، تحولت الطرق المؤدية إلى مدينة الضالع إلى أنهار بشرية متدفقة.
استجابت الجماهير من محافظات عدن، لحج، أبين، شبوة، وحضرموت لدعوة القيادة، في مشهد لوجستي وتنظيمي أثبت قدرة المجلس الانتقالي على الحشد والتعبئة الشعبية.
لم تكن هذه مجرد أعداد، بل كانت أصواتاً هادرة تعبر عن إرادة جمعية. الهتافات التي صدحت بها الحناجر، 'بالروح بالدم نفديك يا جنوب'، والأعلام التي غطت سماء المدينة، لم تكن مجرد شعارات، بل كانت تجسيداً حياً لتفويض شعبي متجدد للرئيس الزُبيدي وقيادة المجلس الانتقالي للمضي قدماً في تحقيق هدف استعادة الدولة. لقد حولت هذه الحشود الساحة إلى ما يشبه 'صندوق اقتراع' مفتوح، صوت فيه الشعب بـ'نعم' واضحة وصريحة لمشروع الدولة الجنوبية الفيدرالية المستقلة، و'لا' مدوية لكل مشاريع الوحدة القسرية أو الحلول المنقوصة التي تتجاوز تطلعاته.
*رسالة الرئيس الزُبيدي
في قلب هذا الزخم الجماهيري، اعتلى الرئيس عيدروس الزُبيدي المنصة ليلقي كلمة لم تكن خطاباً عادياً، بل خارطة طريق سياسية وعسكرية واضحة المعالم. كانت كلماته بمثابة ميثاق عمل للمرحلة المقبلة، حيث لامست كل القضايا الجوهرية بدقة وشفافية. افتتح كلمته بتوجيه التحية للشعب الصامد، 'يا أبناء شعبنا الجنوبي العظيم في الداخل والخارج، أحييكم جميعاً في يومنا الأغر هذا، يوم انطلاقة ثورتنا الكبرى، ثورة 14 أكتوبر المجيدة، التي ستظل شعلة للنضال ومصدر إلهام لنا وللأجيال القادمة'.
بهذا الاستهلال، ربط الزُبيدي حاضر النضال بماضيه المجيد، مؤكداً على استمرارية الثورة.
ثم انتقل لتحديد الهدف الاستراتيجي بعبارة لا تقبل التأويل: 'نجدد العهد لكم ولكل الشهداء والجرحى بأننا ماضون على دربهم بثبات، حتى استعادة وبناء دولة الجنوب الفيدرالية المستقلة، دولة الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية'
التأكيد على 'الفيدرالية' و'المواطنة المتساوية' يمثل رداً عملياً على المخاوف ويؤسس لعقد اجتماعي جنوبي جديد ويؤكد بوضوح أن الدولة الجنوبية المستقبلية ستكون دولة فيدرالية لا مكان فيها لحكم الفرد
*رسائل الداخل: وحدة الصف وتجاوز الماضي
خصص الزُبيدي جزءاً هاماً من خطابه للداخل الجنوبي، مدركاً أن قوة الموقف الخارجي تنبع من صلابة الجبهة الداخلية. أشاد بالحوار الوطني الجنوبي الذي أفضى إلى التوقيع على الميثاق الوطني، معتبراً إياه أساساً لمرحلة جديدة من التلاحم.
وقال الرئيس الزبيدي:
'لقد أسس حوارنا الوطني الجنوبي وميثاقه الوطني لمرحلة جديدة من التلاحم والتكاتف، وفتحنا أذرعنا لكل أبناء الجنوب دون استثناء'.
تمثل هذه الدعوة المفتوحة تطميناً لكل المكونات والقوى الجنوبية بأن الدولة القادمة ستكون دولة جميع أبنائها، كما لم يغفل عن الإشادة بالتضحيات، خاصة تضحيات القوات المسلحة الجنوبية والأمن، مؤكداً على دورهم المحوري في حماية المكتسبات وتأمين المستقبل في لمحة ذكية عززت معنويات المقاتلين في الجبهات وأكدت أن القيادة السياسية والشعب يقفان خلفهم صفاً واحداً.
*رسائل الإقليم والعالم
بذكاء سياسي، وجه الرئيس الزُبيدي رسائل متوازنة ومباشرة للشركاء الإقليميين والمجتمع الدولي.
لم يضع الجنوب في موقع الخصم، بل في موقع الشريك الاستراتيجي الموثوق. أكد على أن الجنوب جزء لا يتجزأ من النسيج العربي، وسيبقى 'رأس حربة' في مكافحة الإرهاب وتأمين أهم الممرات المائية الدولية.
وقال بوضوح: 'نؤكد لشركائنا في الإقليم والعالم، وفي مقدمتهم الأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، أن الجنوب سيبقى شريكاً فاعلاً وموثوقاً في كل الجهود الرامية لتحقيق السلام وتأمين المنطقة'.
تهدف رسائل الزبيدي إلى تبديد أي قلق إقليمي أو دولي من أن استعادة دولة الجنوب قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، بل على العكس، يقدمها الزُبيدي كضمانة أساسية لهذا الاستقرار.. إنه يطرح معادلة جديدة: استقرار المنطقة يمر عبر استقرار الجنوب، واستقرار الجنوب لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تلبية طموحات شعبه في دولة مستقلة.
*البعد الاقتصادي والخدمي
لم تقتصر زيارة الرئيس الزُبيدي على الجانب السياسي والشعبي فقط، بل حملت بعداً تنموياً وخدمياً هاماً.
فإلى جانب المهرجان الخطابي، من المقرر أن يقوم الزُبيدي بافتتاح وتدشين عدد من المشاريع الخدمية الحيوية في محافظة الضالع، والتي مولتها دولة الإمارات العربية المتحدة.
هذه الخطوة تحمل رسالة بالغة الأهمية مفادها أن المجلس الانتقالي لا يعمل فقط على المسار السياسي لاستعادة الدولة، بل يعمل بالتوازي على بناء مؤسساتها وتقديم الخدمات للمواطنين. إنه تأكيد عملي على أن 'بناء الدولة' ليس شعاراً مؤجلاً لما بعد التحرير، بل هو عملية مستمرة تبدأ من اليوم، من خلال تحسين حياة الناس وتثبيت دعائم الإدارة الذاتية في المناطق المحررة وهو توجه يعزز من شرعية المجلس ككيان قادر على الحكم والإدارة، وليس فقط كحركة تحرر.
*مشاركة حرائرالجنوب
كان الحضور النسائي في مهرجان الضالع لافتاً ومكثفاً، وشكل علامة فارقة في هذا الحدث التاريخي. لم تكن مشاركة 'حرائر الجنوب' مجرد حضور عددي، بل كانت تعبيراً قوياً عن دور المرأة المحوري في الثورة الجنوبية الحديثة، تماماً كما كان دورها في ثورة أكتوبر 1963.
إن وجودهن في مقدمة الصفوف، وهن يرفعن الأعلام ويرددن الهتافات، يبعث برسالة مفادها أن قضية الجنوب هي قضية كل المجتمع، وأن المرأة الجنوبية شريك أساسي في صنع القرار ورسم ملامح المستقبل. وقد حرص الرئيس الزُبيدي في كلمته على الإشادة بهذا الدور، مؤكداً أن دولة الجنوب القادمة ستكون دولة تضمن حقوق المرأة ومشاركتها الكاملة في كافة مناحي الحياة، تجسيداً لمبادئ العدالة والمواطنة المتساوية التي قامت من أجلها الثورة.
*من إعلان عدن التاريخي' إلى 'بيان الضالع الشعبي
إذا كان 'إعلان عدن التاريخي' في 4 مايو 2017 قد فوض الرئيس الزُبيدي بتشكيل قيادة سياسية لإدارة وتمثيل الجنوب، فإن حشد الضالع في 13 أكتوبر 2025 يمكن اعتباره 'بيان الضالع الشعبي' الذي فوض هذه القيادة بالانتقال إلى المرحلة النهائية من استعادة الدولة. لقد أظهر الحدث نضجاً سياسياً وشعبياً كبيراً، وانتقالاً من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل وصناعة المبادرة.
الرسائل التي انطلقت من الضالع كانت واضحة: وحدة الصف الجنوبي تحت قيادة المجلس الانتقالي حقيقة واقعة، والإرادة الشعبية لاستعادة الدولة أصبحت قوة لا يمكن كسرها، والجنوب يقدم نفسه كشريك سلام واستقرار لا يمكن تجاوزه. لقد أعادت هذه الذكرى شحن الروح الوطنية، وأكدت أن ثورة أكتوبر ليست مجرد حدث في الماضي، بل هي بوصلة حية توجه الحاضر وتلهم المستقبل.