اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٧ أيلول ٢٠٢٥
ما جرى عند صخرة الروشة ليس مناسبة حزبية عابرة، بل مشهد انقلابي فجّ على الدولة وشرعيتها. قرر حزب الله أن يطيح بقرار رئيس الحكومة ويستخف برخصة محافظ بيروت، ليعلن عبر رئيس وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا أن الدولة لا تعنيه. صفا، وبكل وقاحة سياسية، جلس مقابل الصخرة مشرفًا على لحظة التحدي، جاهرًا: جايين نضويها. لم يكن كلامًا عابرًا، بل رسالة قاطعة بأن الميليشيا أقوى من الحكومة، وأن قرارات السلطة التنفيذية يمكن تمزيقها في ثوانٍ.
فقد نصّت رخصة محافظ بيروت بوضوح على منع إضاءة صخرة الروشة تحت أي شكل، لكن الحزب لم يكتفِ بخرق القرار، بل حوّل المناسبة إلى استعراض سياسي - أمني، أدار دفته وفيق صفا، وكأن الأمر قرار سيادي يتجاوز الدولة نفسها. رئيس الحكومة نواف سلام، الذي أدرك خطورة المشهد، دعا وزراء الداخلية والعدل والدفاع إلى اتخاذ الإجراءات الفورية، غير أنّ النتيجة أتت على صورة عجز كامل حتى مساء أمس: لا توقيفات، لا استدعاءات، ولا حتى تحقيق جدّي.
ما جرى أثناء غزوة الروشة، لم يكن مجرد تهاون، بل أقرب إلى تواطؤ، تُرجم برسائل شكر وجهها حزب الله بلسان وفيق صفا نفسه إلى قائد الجيش وقائد قوى الأمن الداخلي على إنجاح هذه الفاعليّة، في مشهد يختصر اختلال المعادلة بين سلطة تسعى إلى أن تكون دولة مكتملة الأركان، ودويلة واقعية تفرض نفسها بقوة السلاح والفجور.
هذه ليست المرة الأولى التي يتقدّم فيها وفيق صفا إلى الواجهة لتحدي مؤسسات الدولة. الجميع يذكر يوم اقتحم العدلية وهدّد كبار القضاة وطلب نقل تهديد مباشر للمحقق العدلي القاضي طارق البيطار، بـقبعه، من دون أن يحرّك أحد ساكنًا. واليوم، التاريخ يعيد نفسه: الرجل يطلّ من جديد، لكن هذه المرة من موقع العلن، جالسًا مقابل الصخرة، مشرفًا شخصيًا على تنفيذ الانقلاب على قرار السلطة التنفيذية. والسؤال البديهي: لماذا لم يُستدعَ حتى اللحظة إلى التحقيق؟ وهل سينتحل المسؤولون دور النعامة، مكتفين بتحميل المسؤولية لجمعية شكلية استحصلت على الترخيص المشروط، بينما المتمرّد الحقيقي يصول ويجول بلا حسيب أو رقيب؟
إن محاولة حصر المسؤولية بالجهة المنظمة وفق متابعين، هو تمييع للحقائق وهروب من المحاسبة. المسألة أبعد من مخالفة إدارية، إنها كسر فاضح لقرار حكومي صريح. ومن هنا، فإن واجب القضاء لا يقف عند حدود التعميمات والبيانات، بل يقتضي استدعاء كل الذين تباهوا بتحدي الدولة. أما استمرار صمت الأجهزة وتقاعس الوزراء المعنيين عن واجبهم، فهو وفق مطلعين، خيانة للمسؤولية الدستورية ومشاركة مباشرة في إضعاف الدولة وتثبيت معادلة الدويلة.
وزير العدل المحامي عادل نصّار شدد على وجوب وضع الأمور في نصابها القضائي، مؤكدًا لـنداء الوطن أنه مع وضع القضاء يده على ما حصل في الروشة، يخرج الموضوع من الإطار السياسي، وأشار إلى أن تحديد المسؤوليات عن التجاوزات يجب أن يتم وفق القانون وبعيدًا عن السياسة والتهويل. وأكد نصّار وجوب الاقتناع بأن الحكومة ماضية في بناء مؤسسات الدولة، وعلى اللبنانيين دعم هذه المؤسسات للقيام بواجبها. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل الأجهزة القضائية والأمنية ستملك الجرأة لتسمية الأمور بأسمائها، أم ستترك الرأس الحقيقي بعيدًا عن أي محاسبة؟
بدوره، اختصر المحامي إيلي محفوض المسألة بوضوح حين قال لـنداء الوطن إن القضية تتجاوز مراجعة شكلية من وزير العدل إلى النيابة العامة، لأن ما حصل هو تحدٍ مباشر لقرار رئيس الحكومة، أي لرأس السلطة التنفيذية. واستباحة معلم سياحي أو ثقافي، رغم خطورتها، تبقى تفصيلًا أمام سلسلة الجرائم والاغتيالات التي ارتكبها حزب الله وأدين عناصره بها. ولفت إلى أن جوهر القضية اليوم يكمن في تقاعس الأجهزة المولجة تطبيق أوامر الدولة؛ وأشار إلى أن من لم يلتزم التعليمات الصارمة بعدم إنارة الصخرة ارتكب جرم المخالفة، لكن من امتنع عن التحرك لم يقلّ خطرًا عنه. وقال: هنا تكمن الخطورة، مؤسسات الدولة نفسها تستنكف عن حماية قرارها، فتفتح الباب لحزب الله كي يستسهل الانقلاب مجددًا.
إن ما جرى عند الروشة رسالة ساطعة: لبنان يقف بين خياريّن لا ثالث لهما. إمّا دولة قانون تحتكم فيها المؤسسات إلى قراراتها وتفرض المحاسبة على الجميع، وفي مقدمهم من تصدّر مشهدية التحدي وغزوة الروشة، وإمّا دولة تنهشها الميليشيا قطعة بعد قطعة، وتصبح مؤسساتها مجرد ديكور وامتداد لإملاءات ما عُرف يومًا بقوى الأمر الواقع. واستعادة الدولة هيبتها لا يمكن إلا من خلال مساريّن متوازيين: الأول، فتح تحقيق جدّي داخل الأجهزة الأمنية نفسها لتبيان أسباب تقاعسها وتحديد المسؤوليات بالاسم؛ والثاني، تكليف الضابطة العدلية بالاستماع فورًا إلى وفيق صفا وإحالته إلى القضاء، منعًا لتكريس معادلة أن الميليشيا أقوى من الدولة.
المحاسبة هنا ليست خيارًا، بل شرطًا وحيدًا لبقاء فكرة الدولة نفسها. وما لم تتم المحاسبة الفعلية، ستبقى صخرة الروشة مضاءة بعار سلطة عاجزة، أكثر من أي صورة أو شعار.