اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٠ أيار ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء':
التفاوض خيار مرّ بالنسبة لكل من أميركا في ما يخص الملف النووي مع ايران، و«إسرائيل» في ما يخصّ ملف غزة، لأن الرئيس الأميركي الذي يفاوض هو الرئيس الأميركي ذاته الذي أعلن الانسحاب من اتفاق سابق في العام 2015 وحدّد محاور سعيه لتعديل الاتفاق بالتركيز على أمرين هما البرنامج الصاروخي الإيراني وتحالفات إيران مع قوى المقاومة وتقديم الدعم الإيراني لها. وقد اكتشف عندما قرر قبول خيار التفاوض أن عليه أن يضع هذين البندين جانباً تماماً، كما فعل سلفه باراك أوباما الذي اتهمه ترامب بالتخاذل أمام إيران لإنجاز الاتفاق، والقبول بأن التفاوض سوف يجري حصراً حول الملف النووي، وأنه في الملف النووي سوف يجري في كيفية تقديم الضمانات المتبادلة، ضمانات إيرانية بعدم امتلاك برنامج نووي عسكري، وضمانات أميركية بعدم انسحاب رئيس مقبل من الاتفاق وضمان رفع العقوبات.
حال بنيامين نتنياهو مع التفاوض حول غزة أشدّ صعوبة وقسوة، لأنه يدرك أن أي تفاوض سوف ينتهي بوقف الحرب بدون إسقاط المقاومة وسلاحها. وهذا يعني في الداخل الإسرائيلي عودة لمعادلة ما قبل طوفان الأقصى، أي التعايش والتساكن مع مبدأ وجود مقاومة مسلّحة على حدود الأراضي المحتلة عام 1948، ومثلما بنت هذه المقاومة قدراتها من لا شيء في العام 2005 وصولاً إلى ما سمح لها باجتياح ثلاثة أضعاف مساحة قطاع غزة من الأراضي المحتلة عام 1948 خلال أربع ساعات والقضاء على قوة تعادل عشر مرات القوة المهاجمة، فإن تكرار الأمر وارد ولو بعد حين أو سنين، ما يعني أن «إسرائيل» لن تعرف الشعور بالأمن الوجودي، وبالتوازي فإن أي اتفاق سوف يضمن بقاء الفلسطينيين في غزة، وهذا يعني أن التعويض المعنوي الذي تسعى إليه حكومة الكيان أمام مستوطنيها لزلزال طوفان الأقصى وسقوط قوة الردع وهيبة الجيش، من خلال القول إنها تخلصت بفضل الحرب من خطر الخلل الديمغرافي بين سكان فلسطين التاريخية لصالح العرب الفلسطينيين، عبر ضمان تهجير سكان غزة الذين يمثلون تقريباً ربع هؤلاء السكان العرب الفلسطينيين.
بالمقابل يبدو خيار التفاوض رغم كل هذه التعقيدات، ممراً إلزامياً عندما يتبين لنا أن خيار الحرب على إيران بالنسبة لأميركا أشدّ مرارة من خيار التفاوض، وقد فحصت واشنطن جيداً كل الفرضيات في خيار الحرب، وهي أعلنت أنها عندما دخلت الحرب مع اليمن أرادتها رسالة إلى إيران حول ما ينتظرها إذا لم تستجب للشروط الأميركية في برنامجها النووي، لكن واشنطن توصلت إلى قناعة راسخة باستحالة الذهاب إلى الحرب، وبحماقة الدعوات الإسرائيلية للشراكة في مثل هذه الحرب، لأن الحرب سوف تكون وصفة سريعة لدفع إيران لإعلان التحول إلى برنامج عسكري نووي، ولأن الحرب سوف ترتب اهتزازاً كبيراً في الاقتصاد العالمي والإقليمي، سمع الرئيس ترامب من قادة الخليج أنه سوف يكون مستحيلاً الوفاء بالالتزامات المالية التي حصل عليها منهم إن نشبت الحرب. هذا عدا عن أزمة طاقة عالمية وأزمات بورصات وأسهم، وفوق كل ذلك تعريض القواعد والمصالح الأميركية لأخطار يصعب تفاديها، بقياس ما قالته الحرب مع اليمن مع مقدرات يمنية تحت الحصار. ويعتقد الأميركيون أن ما لدى إيران من قدرات يفوق بأضعاف كماً ونوعاً ما لدى اليمن، وإذا كان اليمن قد مثل تهديداً لأمن الأسطول الأميركي لم يكن ممكناً تفاديه إلا بالانسحاب وقبول الخروج من الحرب رغم بقاء اليمن في حربه مع «إسرائيل»، فإن المخاطرة بحرب مع إيران تبدو حماقة كبرى.
قد يبدو إقبال نتنياهو وحلفائه في الحكومة على فكرة مواصلة الحرب حماسياً، بصورة تنشئ نوعاً من الخداع بالاعتقاد أن حسابات حكومة نتيناهو لفرض الفوز بالحرب هي السبب، لكن الحقيقة هي أن نتنياهو يواصل الحرب تفادياً لاتفاق يعرف أنه سوف يعيد إنتاج المأزق الوجودي في الكيان، وما دامت الحرب المستمرة فإن النقاش حول هذا المأزق لن ينطلق، لكن الحرب تخاض بعكس قدرة المجتمع والاقتصاد والجيش والحلفاء، وقد استنفد نتنياهو كل رصيده لدى الشارع والرأي العام حتى بلغت نسبة معارضي الحرب مؤخراً 80%، بينما يعاني الاقتصاد احتضاراً شاملاً وقد بلغت الرساميل المهاجرة رقم المئة مليار دولار منذ طوفان الأقصى، بينما ينهار الجيش مع تمرّد الاحتياط وتراجع الروح القتالية وبدأت مؤخراً تظهر معالم الانفكاك من الحلفاء عن حروب «إسرائيل». وهذا هو معنى اتفاق اليمن الذي وقعته واشنطن، وهذا معنى البيانات الأوروبية الشديدة اللهجة، وهو معنى حراك الشوارع الأوروبيّة والأميركية والغربية بصورة عامة، ويوماً بعد يوم تتزايد مفاعيل عناصر الضغط هذه، وقد بلغت مرحلة عالية التأثير لم يعد ممكناً تجاهل مفاعيلها.
لا مفرّ لأميركا و«إسرائيل» كل في ملفه الرئيسي في المنطقة، من البحث عن تسويات تفاوضية، لأن بقاء القضايا عالقة يهدد بانفجار يخرج عن السيطرة والمخاطرة بالحرب تعني نهاية سريعة دراماتيكية لصورة القوة الأميركية الإسرائيلية من جهة، وانهياراً للاستقرار الذي صار مصلحة أميركية حيوية، وعلى الأميركيين ابتكار أطروحات بديلة من الدعوة لتفكيك برنامج تخصيب اليورانيوم، كما على الإسرائيليين ابتكار صيغ بديلة عن الدعوة لإلقاء المقاومة سلاحها.