دعت ليما بسطامي، مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إلى إنشاء شبكة تنسيق قانوني لإنجاح مسار مساءلة جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام القضاء الوطني في دول العالم المختلفة.

وأكدت بسطامي في مقابلة مع 'فلسطين أون لاين'، أن نجاح مساءلة عناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام القضاء الوطني للدول يتطلب تجاوز الطابع المتفرّق للدعاوى، عبر إنشاء شبكة تنسيق قانوني تربط بين الملفات المقدّمة في دول مختلفة ضمن مسار عمل موحّد قدر الإمكان.

متطلبات إنجاح الملاحقة

وأوضحت أن من شأن ذلك الإسهام في منع عزل كل قضية على حدة، وتوسيع النطاق الجغرافي والقانوني للقضايا، ما يُصعّب على (إسرائيل) محاصرتها أو التأثير عليها دبلوماسيًا؛ إلى جانب ضمان حماية الشهود والضحايا.

كما دعت إلى إنشاء صندوق طوارئ مشترك يُغطي أتعاب المحاماة والتكاليف اللازمة للسير في هذه الدعاوى، وتعزيز الشراكات بين المجتمع المدني الفلسطيني ونظيره في الدول المعنية.

وحثت على تنفيذ استراتيجيات إعلامية تحول دون حصر تغطية هذه القضايا في سياق إجرائي ضيّق، بل ترفعها إلى مستوى قضية أخلاقية مستمرة تُبقي رواية الضحايا حاضرة في الفضاء العام، فضلًا عن إشراك العيادات القانونية الجامعية في تلك الدعاوى داخل الدول المعنية، بما يُسهم في تهيئة جيل أكثر وعيًا بحقوق الفلسطينيين، وأكثر كفاءة في توظيف أدوات القانون لمساءلة منتهكيها.

وأشارت إلى أنه مع تصاعد الجرائم المرتكبة في قطاع غزة، وتزايد تعاجز المنظومة الدولية عن وقفها، بل وتواطؤ بعض أطرافها في تعطيل أدوات المساءلة الدولية—رغم محدودية فعاليتها في الأصل—بادرت مؤسسات من المجتمع المدني، وطنية ودولية، وفي العديد من الحالات بالشراكة مع مؤسسات فلسطينية، إلى تفعيل ما هو متاح من الآليات القانونية البديلة.

وبيّنت أن ذلك تمثّل في تقديم شكاوى جنائية أمام جهات قضائية وطنية في عدد من الدول، ضد جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي، على خلفية مشاركتهم في ارتكاب جرائم دولية في القطاع، كالقتل العمد، والتعذيب، وهدم المساكن المدنية، واستهداف المنشآت الطبية.

واستندت هذه الشكاوى – وفق بسطامي- إمّا إلى مبدأ الولاية الشخصية، في الحالات التي يحمل فيها المشتكى عليه جنسية الدولة المُقدّمة فيها الشكوى، أو إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، كما كرّسه القانون الدولي العرفي وبعض الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، والتي تُلزم الدول بملاحقة ومعاقبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني والجرائم الدولية، بغضّ النظر عن جنسية الجاني أو الضحية أو مكان وقوع الجريمة.

نمو ملموس

وأكدت أنه رغم أن هذه التحركات القضائية لا تزال محدودة من حيث العدد والنطاق الجغرافي، إلا أنها تشهد نموًا تدريجيًا ملموسًا، ولا يجوز اختزال جدواها بما يصدر فعليًا من أحكام أو قرارات داخل قاعات المحاكم.

وتابعت أنه لا يصح الحكم عليها بالفشل، حتى في الحالات التي قوبلت بالرفض لأسباب إجرائية أو سياسية، مبينة أن المجموع المُتراكم لهذا النوع من الدعاوى، وطبيعتها، يَفرض قراءةً أوسع لأثرها، ويُنتج آثارًا متشابكة—بعضها مباشر وبعضها غير مباشر—تتجاوز البعد القانوني البحت، لتطال المجال السياسي والرأي العام، وتمسّ مباشرة البنية الرمزية لحصانة إسرائيل التي لطالما جرى التعامل معها بوصفها غير قابلة للمساءلة.

وأكدت أن هذه التحركات تُسهّم في تقليص قدرة بعض الحكومات الداعمة لإسرائيل على الإنكار أو التنصل، مع اضطرار محاكمها الوطنية للتعامل مع قضايا تنظر في تورّط أفراد من جيش الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب جرائم دولية جسيمة.

ورأت الحقوقية بسطامي أن هذا التناقض بين الخطاب السياسي المعلن والمسار القضائي الفعلي يكشف زيف مواقف تلك الحكومات، ويسهم بالتالي في رفع الكلفة الأخلاقية والدبلوماسية المترتبة على الاستمرار في دعم إسرائيل، لا سيما في ظل تزايد التوثيق القانوني واتساع دائرة المساءلة القضائية.

تقويض احتكار السردية في المجتمعات الغربية

ورأت أن هذه الدعاوى تفتح بابًا لتقويض احتكار السردية داخل المجتمعات الغربية، من خلال إدخال رواية الضحايا إلى الحيّز القضائي والإعلامي العامّ، عبر شهادات موثّقة، وتقارير خبراء، وأدلة قانونية تفرض نفسها خارج إطار الخطاب السياسي التقليدي، لا سيما عندما تحظى هذه القضايا بتغطية من وسائل الإعلام المحلي، بما يعزز الوعي العام ويدفع قطاعات أوسع من المجتمع للتفاعل مع حقيقة ما يجري.

وذكرت أنه رغم أن التأثير المباشر على جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يزال محدودًا، بفعل الدعم السياسي الغربي والحصانة الواقعية التي يتمتع بها أفراده، إلا أن إدراج أسماء جنود وقادة ضمن شكاوى جنائية موثقة أمام محاكم أجنبية بدأ يفرض قدرًا متزايدًا من الحذر داخل المؤسسة العسكرية، خصوصًا فيما يتعلق بالسفر، أو المشاركة في مهام دولية، أو الظهور العلني في محافل خارجية.

وأردفت، أنه في بعض الحالات، أُعيد النظر في جدولة تنقلاتهم أو خُفّض مستوى انكشافهم الخارجي تفاديًا للإحراج القانوني أو الدبلوماسي. وبذلك، بدأت هذه الشكاوى تفرض كلفة سياسية وقانونية متراكمة على المتورطين في هذه الجرائم، سواء من حيث حركتهم الدولية، أو حضورهم الإعلامي والدبلوماسي، أو حتى في حياتهم الشخصية والمهنية.

وشددت على أن هذه المسارات، وإن بدت محدودة من حيث نتائجها القضائية المباشرة، قد تشكّل تحولًا نوعيًا في منطق المساءلة الدولية، لا باعتبارها بديلًا جاهزًا للمحاسبة، بل بوصفها أداة مستمرة لتقويض بنية الإفلات من العقاب التي لطالما أحاطت بإسرائيل، سياسيًا وقانونيًا وأخلاقيًا. فهي تفتح مجالات جديدة لتوسيع الولاية القضائية، وتُراكم سوابق قانونية قابلة للتطوير، وتُسهم في نقل مركز الثقل من حصرية المحافل الدولية إلى تفعيل أدوات العدالة الوطنية العابرة للحدود، بما يعيد وصل هذه المسارات بأهداف القانون الدولي كما وُضعت أصلًا.

وأشارت إلى أن هذه القراءة ليست محاولة لتحميل هذه القضايا ما لا تحتمله، أو لتجميل مشهد لا يزال قاتمًا ومثقلاً بالعنصرية البنيوية ضد الفلسطينيين، والتحيّز البنيوي والعميق لمصلحة (إسرائيل).

ولفتت إلى أن هذه الشكاوى لا تزال، في نهاية المطاف، مرتبطة بجملة من القيود؛ تبدأ بتشريعات الدول الداخلية، ومدى استقلال السلطة القضائية فيها، ومدى توفر الإرادة السياسية لفتح الملفات والسير بها حتى النهاية.

كما تبقى – وفق بسطامي- مرتبطة فعليًا بالمبادرات الفردية أو المؤسسية للمجتمع المدني، وبمدى توافر الأدلة القابلة للاستخدام القانوني، والقدرة على تغطية التكاليف المرتبطة بالإجراءات والترافع، وقدرة الضحايا على الوصول إلى جهات التقاضي، ناهيك عن الإشكاليات المرتبطة بحصانة المسؤولين، وتفاوت المعايير في تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية.

وأكدت أن هذه الدعاوى لا تنفصل عن واقع قضائي يعمل، في كثير من الأحيان، داخل بيئة سياسية ضاغطة، حيث قد تؤدي التدخلات الدبلوماسية والضغوط الإعلامية، صراحة أو ضمنًا، إلى التأثير على مسار القضايا المرتبطة بإسرائيل، سواء عبر إبطائها، أو التعامل معها بحساسية مفرطة، أو استنزافها في متاهات إجرائية، رغم ما تحمله من أدلة دامغة. وحتى عندما يُبدي القضاء استعدادًا للمضي قدمًا، تبقى القدرة على تنفيذ القرارات رهينة بالنفوذ السياسي.

جمع الأدلة

وعلى صعيد الأدلة، أوضحت أن جمعها يُشكّل تحديًا جديًا في ظلّ البنية الإسرائيلية المصمَّمة لطمس الحقيقة، سواء من خلال الحصار الميداني الكامل المفروض على قطاع غزة، والذي حال دون دخول لجان التحقيق الدولية، بما في ذلك بعثات المحكمة الجنائية الدولية، ولجنة التحقيق الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، والمقرّرين الخاصين، وكذلك الصحافيين الدوليين، أو من خلال التدمير المنهجي للمنشآت المدنية التي قد تحتوي على وثائق وسجلات، وطمس مسارح الجريمة، أو عبر الحجب الكامل للسجلات العسكرية والأوامر العملياتية ذات الصلة.

ومع ذلك، تؤكد بسطامي أن ثمة مصادر قوة متزايدة يمكن البناء عليها، أبرزها المواد التي يُنتجها أفراد الجيش الإسرائيلي أنفسهم، كالصور، والفيديوهات، والمنشورات الميدانية، التي تُنشر طوعًا على منصّات التواصل الاجتماعي، وتُعدّ في كثير من الحالات أدلة أصلية مباشرة، قابلة للتحقّق الفني، وتحمل وزنًا إثباتيًا مهمًا.

وأضافت أن تطوّر أدوات الرصد والتحليل المفتوح (OSINT) وصور الأقمار الصناعية توفر إمكانيات إضافية لتوثيق المواقع وسلاسل الأحداث والجرائم، حتى في ظل غياب الوصول الميداني.

وتابعت، يضاف إلى ذلك الشهادات الحية التي ترد من داخل القطاع عبر وسائل مشفّرة وآمنة، ما يُتيح إمكانية بناء ملفات قانونية أكثر تماسكًا، رغم سياسات العزل والتعتيم المنهجي التي تنتهجها إسرائيل لطمس الأدلة ومنع توثيق الجرائم.

واستدركت: مع ذلك، فإن هذا المسار الآخذ في التشكل، وإلى جانب ما سبق، يشكّل تحديًا متصاعدًا لفكرة أن (إسرائيل) تقف فعليًا 'فوق القانون'، ويفتح في بعض السياقات نقاشًا داخليًا جادًا في الدول المعنية حول التصدّع بين القيم التي تُعلَن بوصفها مبادئ عالمية، والممارسات السياسية التي تُقوّضها أو الجرائم التي يرتكبها مواطنوها.

كما يُسهم هذا المسار – وفق الخبيرة الحقوقية- في تراكم خبرات قانونية متخصصة في ملاحقة الجرائم الدولية المرتكبة في فلسطين، ويُؤسس تدريجيًا لبنية معرفية تشمل قواعد بيانات قانونية، وأدلة وشهادات موثقة قابلة للتوظيف أمام المحاكم الدولية، أو في لجان التحقيق وتقصي الحقائق، أو في أي مسعى مستقبلي للعدالة الانتقالية الفلسطينية، بما يُنصف الضحايا، ويُعيد الاعتراف بما جرى لهم، ويضمن مساءلة الجناة.