كتب ابراهيم الرز…

في مشهد يحمل رمزية بالغة في توقيته ومضامينه، تأتي زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية، عبد اللطيف دريان إلى دمشق، لتتعدى بُعْدَها البروتوكولي إلى وضع أسس جديدة لم يكن يسمح بها النظام السابق. فهي، بالنسبة لكثيرين، ليست مجرد زيارة دينية لمسؤول يمثل سُنَّة الجمهورية اللبنانية، بل انعطافة في مسار العلاقة بين السُنَّة اللبنانيين والنظام السوري.

هي زيارة مصالحة الدولة السورية مع السنة اللبنانيين، بعد عقود من العلاقة المشوبة بالاغتيالات. فالنظام السوري السابق متهم باغتيال مفتي الجمهورية حسن خالد والشيخ صبحي الصالح، ومتهم أيضاً بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكثر آخرين. كما أن توقيت الزيارة ورمزيتها يتصل بالسعي الى فتح علاقات سنية واضحة مع الدولة الناشئة والمنفتحة على خيارات عربية لم تكن موجودة. وكأنها إعطاء مشروعية سنية لبنانية لأحمد الشرع، خصوصاً أنه لم يحصل أي انفتاح سني بالمعنى الزعاماتي طوال الفترة الماضية.

في الشكل، تقول الزيارة إن الماضي الدامي قد طُوي، وإن السنّة في لبنان باتوا مستعدّين لفتح صفحة جديدة طبيعية ولا بد منها لتوطيد العلاقة مع الدولة السورية، لا تقوم فقط على الحذر والخوف، أو على المصالح الخاصة، بل تعتمد على التحالف والتنسيق. وهي بذلك تأتي في سياق رؤية يريد دريان ترسيخها، وترتكز على ضرورة التواصل مع المحيط العربي، بما فيه دمشق، للحؤول دون العزلة السياسية للمكوّن السنّي في لبنان، ولتبديد المخاوف المتعلقة بما يُروج عن تعزيز التطرف في لبنان، خصوصاً أن مفتي الجمهورية اللبنانية يشدد دوماً على مسألة الاعتدال.

هذه الرسائل تلاقت مع تصريح أدلى به المفتي قبل أيام قليلة من زيارته، حين قال إن 'السنّة في لبنان هم أصل البلد، ولا قيام للدولة من دونهم'، وهي عبارة تختزن الكثير من الدلالات. من جهة، هي تعكس إحساسًا بالغبن أو بالتهميش الذي يشعر به السنّة في التركيبة السياسية اللبنانية الحالية. ومن جهة ثانية، تفتح الباب أمام تفسير أوسع، مفاده أن 'قيام الدولة' -أي استعادتها لعافيتها واستقرارها- لا يمكن أن يتم إلا بعلاقات ودية وندية مع النظام السوري الجديد، لا سيما وأن الملفات المشتركة بين البلدين لها أهميتها التي تستدعي تنسيقاً على أصعدة متعددة، إن بشأن قضية النازحين أو مسألة ترسيم الحدود بين البلدين، أو مسألة التعاون الاقتصادي في قطاعات حيوية، تبدأ بالقطاع الزراعي ولا تنتهي بالمساهمة في إعادة الإعمار، وكذلك انطلاقًا من إدراك لدى دريان بأن سوريا ستبقى، بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، لاعبًا مؤثرًا في لبنان، ولا يمكن تجاهل هذا الواقع.

وكأنها رحلة الألف ميل التي تبدأ بهذه الزيارة. وفي هذا السياق، يقول المسؤول الاعلامي في دار الفتوى خلدون قواص لـ'المدن': 'أن زيارة سماحة المفتي هي لتهنئة الرئيس أحمد الشرع، وعودة العلاقات بين شريحة واسعة من اللبنانيين والدولة السورية'.

 وعن برنامج الزيارة يضيف خلدون، 'ستبدأ بزيارة المسجد الأموي وإقامة صلاة الظهر فيه، ثم زيارة وزير الأوقاف السوري محمد أبو الخير شكري ومفتي سوريا العام الشيخ أسامة الرفاعي والرئيس السوري أحمد الشرع'. كما يؤكد القواص 'أن لا رسالة سياسية خلف هذه الزيارة، بل هي رسالة أخوية'، كما ينفي أن 'يكون هناك أي رابط بين الزيارة وتصريحات مفتي الجمهورية الأخيرة المتعلقة برفضه تهميش السنة ودورهم الوطني المكفول في إطار الدولة'.

لكن في المقابل، لا يمكن النظر إلى هذا الحدث بمعزل عن السياق الإقليمي والمحلي الأوسع، ولا سيما موقف 'حزب الله' الذي لا يكتفي بإخفاء امتعاضه من أي انفتاح لبناني على النظام السوري الحالي، ليذهب بعيداً من خلال ماكينة إعلامية نشيطة تضم حلفائه لتشويه صورة العهد السوري الجديد. فالحزب الذي طالما ربط مصيره بمصير الأسد، يرى في هذا العهد تهديدًا مباشراً له ولمرجعيته الإيرانية، بعد انقطاع خطوط الإمداد من طهران إلى بيروت. 

ويشمل تشويه الصورة بث شائعات عن تصدير للتطرف من سوريا إلى لبنان. وقد عبّرت أوساط دينية وسياسية سنّية عن مخاوفها، من محاولات جعل المكوّن السنّي في لبنان بحاجة الى الخضوع لفحوص دم، تبرهن عن نفيٍ لعلاقتهم مع التنظيمات المتطرفة. وفي هذا السياق، تأتي زيارة دريان لتؤكد على عدم وجود أي وقائع أو معطيات تستند إليها تلك التهم المختلقة لغايات باتت مكشوفة، ولتؤكد أن المكون السني اللبناني هو شريك كامل في عملية بناء الدولة، وبالطبع، هو لم يكن ولن يكون في موقع المتهم، كما دأب النظام الأسدي على إظهاره وشيطنته في العقود الماضية، من خلال تصدير متطرفين كان يرعاهم ويمولهم لزعزعة الاستقرار في لبنان.

قديماً، كان يقال إن السنة في لبنان يحتاجون دائما الى مظلة زعيم عربي مثل عبد الناصر أو ياسر عرفات. اليوم النخبة السنية في لبنان تعتبر أن الدولة اللبنانية وسيادتها هي المظلة الوحيدة التي تحميها. وعليه، فالمصالحة مع سوريا الدولة والشعب هي عودة الأمور إلى مسارها الطبيعي التاريخي، ولا تعني البحث عن زعامة جديدة لهم مع كل الاحترام لشخصية الرئيس أحمد الشرع.

في المحصّلة، تحمل زيارة المفتي عبد اللطيف دريان إلى سوريا رسائل مزدوجة: من جهة، هي مصالحة مع النظام السوري الجديد، تطوي صفحة طويلة من الدم والشكوك. ومن جهة أخرى، هي رسالة داخلية لبنانية تقول إن السنّة ليسوا في عزلة، وإنهم جزء أساسي من المعادلة، وهم قادرون على المبادرة، ولا يكتفون بمجرد رد الفعل. 

وبين هذين الحدّين، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تكون هذه الزيارة بداية لمرحلة جديدة من التوازن السياسي والطائفي في لبنان من جهة، وبين لبنان وسوريا من جهة أخرى؟