الكاتب: فراس الطيراوي

في المشهد الفلسطيني المليء بالتحديات والتحولات، قلّة من الشخصيات استطاعت أن تحافظ على ثباتها ومصداقيتها أمام الناس رغم تقلبات الزمن. ومن بين هؤلاء يبرز اسم عباس زكي كأحد القادة الذين جمعوا بين إرث الثورة وحكمة السياسة، فصار حضورهم رمزًا وطنيًا عابرًا للأجيال، يذكّر الفلسطينيين بجذور النضال وأخلاقياته في زمن الانقسامات.

قائدٌ يصنع الفارق

في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتباين فيه المواقف، تظل هناك علامات مضيئة لا تطمسها الضوضاء ولا تُقصيها الخلافات العابرة. عباس زكي ليس مجرد اسم في سجل الحركة الوطنية الفلسطينية، بل هو حالة نضالية وفكرية ممتدة منذ ستينيات القرن الماضي حتى اليوم. جمع بين صلابة الموقف ومرونة الأداء، وبين شرعية الثورة وشرعية الصندوق الانتخابي، فاستطاع أن يحافظ على مكانة خاصة في وجدان الفلسطينيين. ولعل هذا المزيج هو ما جعله مثالاً للقائد الذي يصنع الفارق بواقعيته من دون أن يفرّط في الثوابت.

من الميدان إلى قاعات السياسة

مسيرة عباس زكي بدأت في الصفوف الأمامية للثورة الفلسطينية. شارك في معركة الكرامة عام 1968 التي مثّلت منعطفًا تاريخيًا في مسار الكفاح المسلح، ثم تنقّل بين مواقع النضال المختلفة مقاتلاً ومنظّرًا قبل أن يتسلم مهمات دبلوماسية وتنظيمية بارزة. فقد شغل موقع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية في كل من لبنان واليمن، وكان سفيرًا لقضيته أينما حلّ. وتوّج مسيرته التنظيمية بانتخابه عضوًا في اللجنة المركزية لحركة فتح لعدة دورات متتالية، وهو موقع يتيح التأثير في القرار الوطني وصياغة السياسات على أعلى المستويات.

هذا الانتقال النادر بين الميدان والدبلوماسية يعكس قدرة زكي على الجمع بين الخبرة النضالية العميقة والرؤية السياسية المتوازنة، وهو ما انعكس أيضًا في حضوره الشعبي الواسع، إذ حصل على أعلى الأصوات في دائرته خلال انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، في مشهدٍ يؤكد أنه لم يفقد صلته بالناس رغم سنوات العمل الرسمي.

رفيق القادة الشهداء

لم يكن عباس زكي طارئًا على مشهد النضال الفلسطيني؛ فهو أحد أبناء المدرسة الوطنية الأصيلة، ورفيق درب القادة الشهداء ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وسعد صايل. شاركهم المعارك، وصاغ معهم السياسات، وتحمّل معهم أعباء الثورة وآمالها وخيباتها. لذلك لم يكن صوته مجرد رأي عابر، بل امتدادًا لنهج تلك المدرسة التي وضعت فلسطين فوق كل اعتبار وجعلت من الوحدة الوطنية والقرار المستقل بوصلة لا تحيد عنها مهما اشتدت العواصف.

صوت من نبض الشارع

ورغم عقود العمل الرسمي والتنظيمي، ظل زكي يحتفظ بصلته المباشرة مع الناس. خطابه ينبع من نبض الشارع لا من حسابات المكاتب المغلقة، وهو ما جعل صراحته تُثير أحيانًا جدلاً، لكنها في الوقت نفسه تعزّز صورته كقائدٍ يقول ما يؤمن به دون مواربة. لقد اختار أن يبقى قريبًا من جمهوره، يتحدث بلغتهم ويدافع عن قضاياهم، ويعبر عن همومهم حتى في أصعب اللحظات السياسية، وهو ما ساعده على البقاء حاضرًا في الوعي الشعبي بوصفه رمزًا نضاليًا حيًا لا مجرد شخصية رسمية.

النقد بالحجة لا بالتجريح

الاختلاف مع القادة أمر صحي ومطلوب، لكنه يفقد قيمته حين يتحول إلى شتائم وإساءات شخصية. في هذه النقطة تحديدًا يمثل عباس زكي مثالًا حيًا على أن القائد الحقيقي يُحاسَب بالوثائق والوقائع لا بالهتافات والشائعات، وأن احترام تاريخه لا يعني رفع الحصانة عن نقده، بل ممارسة النقد بمسؤولية وطنية تحفظ قيمة النضال وتُبقي النقاش في إطاره البنّاء. إن إضعاف الرموز الوطنية من خلال الإساءة إليها لا يخدم سوى الاحتلال، فيما تبقى قوة المجتمع الفلسطيني في قدرته على النقد الرصين القائم على الحجة.

إرث لا يُمحى

ما يميّز عباس زكي أنه جمع بين إرث الثورة وخبرة السياسة، فبقي رمزًا وطنيًا حيًا يُذكّر الأجيال الجديدة بجذور النضال الفلسطيني وأخلاقياته. وإذا كان من حق أي فلسطيني أن يختلف معه في المواقف والسياسات، فمن واجب الجميع الاعتراف بدوره وإرثه الوطني الذي لم تصنعه الصدفة ولا اللحظة، بل صنعته عقود من الكفاح والعمل المتواصل في مختلف الساحات. إن تجربة زكي تقدم نموذجًا للأجيال الشابة في كيفية الجمع بين الحلم الوطني والواقعية السياسية، وبين التمسك بالمبادئ والقدرة على المناورة لتحقيق المصلحة الوطنية.

دروس للأجيال الجديدة

إن قراءة سيرة عباس زكي اليوم ليست مجرد استعادة لتاريخ مضى، بل هي استحضار لدروس ما زالت صالحة للواقع الفلسطيني الراهن. ففي زمن الانقسام والتشرذم، يحتاج الفلسطينيون إلى قادة يوازنون بين الثابت والمتغير، ويؤمنون بأن الوحدة الوطنية هي الأساس، وأن النقد الهادف هو طريق الإصلاح. هذه الثقافة التي جسدها زكي في مسيرته تذكّر الأجيال الجديدة بأن القيادة ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه الشعب والقضية.

خاتمة: وفاء للتاريخ وبوصلة للأجيال

إن استحضار سيرة عباس زكي ليس ترفًا إعلاميًا ولا تمجيدًا شخصيًا، بل هو واجب وطني وأخلاقي يعيد الاعتبار إلى تجربة قيادية غنية تستحق أن تُقرأ بعناية. ففي زمن تتراجع فيه القيم أمام المصالح اللحظية، وتتصاعد فيه حملات التشويه السريعة على وسائل التواصل، يصبح الحديث عن الرموز الوطنية نوعًا من المقاومة الثقافية التي تحمي الذاكرة الجماعية من النسيان أو التزييف.

إن الوفاء للتاريخ لا يعني تحويل القادة إلى أيقونات معصومة، بل يعني التعامل مع إرثهم بوعي ومسؤولية، واستخلاص الدروس من تجاربهم بما فيها من نجاحات وإخفاقات. والحديث عن عباس زكي بهذا الشكل هو دعوة للأجيال الجديدة كي تتعلم أن القيادة ليست ترفًا ولا مغنمًا، بل التزامًا طويل الأمد يدفع صاحبه ثمنه من راحته الشخصية وربما من حياته.

لقد قدّم عباس زكي نموذجًا للقائد الذي يوازن بين المبادئ والواقعية، وبين الكفاح المسلح والعمل السياسي، وبين الصوت العالي في الميدان والجهد الدبلوماسي الهادئ خلف الكواليس. مثل هذه النماذج هي التي تحتاجها فلسطين اليوم أكثر من أي وقت مضى، كي تستعيد وحدتها وتحصن مشروعها الوطني أمام محاولات التصفية والتمزيق.

كما أن تذكير الناس بمسيرة زكي وأمثاله هو بمثابة رسالة أمل بأن النضال الفلسطيني لم يكن مجرد موجة عاطفية أو لحظة تاريخية عابرة، بل مسار طويل من العمل المتواصل والتضحيات الجسيمة، وأن كل جيل يستطيع أن يجد فيه قدوة تلهمه وتمنحه المعنى. فالقضية الفلسطينية لا يمكن أن تعيش إلا بإحياء ذاكرة النضال وتجديد رموزها وقراءة سيرهم قراءة نقدية بنّاءة.

في النهاية، فإن فلسطين بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة تحترم الرموز الوطنية حتى في لحظات الخلاف، وتؤمن بأن النقد بالحجة والوثيقة هو طريق الإصلاح، أما التجريح والتشهير فهما هدية مجانية للاحتلال وأعداء الحرية. ومن هنا تأتي أهمية استعادة صورة عباس زكي كرمز وطني عابر للأجيال، ليس بهدف التمجيد بل بهدف بناء وعي جماعي يرى في تضحيات القادة مدرسةً للأمل والعمل، وبوصلةً ترشد الأجيال إلى طريق الوحدة والكرامة والتحرر.

*ناشط وكاتب عربي فلسطيني عضو الأمانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام