من يتأمّل مسيرة مرفأ بيروت في السنوات الأخيرة، لا بدّ أن يتوقّف بإجلال أمام تجربة فريدة لرجلٍ جمع بين الخبرة والجرأة والدينامية العالية:

إنه الأستاذ عمر عبد الكريم عيتاني، المدير العام ورئيس مجلس إدارة مرفأ بيروت منذ عام 2021، الذي حمل على عاتقه مسؤولية النهوض من تحت الركام، في وقتٍ كان فيه المرفأ أقرب إلى أطلالٍ باهتة بعد الانفجار المدمّر الذي أصابه في صميمه.

البداية من الصفر… واستعادة الحياة

حين تسلّم الأستاذ عيتاني مهامه، كان المرفأ شبه مدمّر.

فمن أصل ستّ عشرة رافعة جسرية تُشكّل عصب عمليات الشحن والتفريغ، لم تكن تعمل سوى ثلاث فقط.

لكنّ إصراره على إعادة الدور الريادي للمرفأ دفعه إلى إطلاق مناقصة شفافة أفضت إلى تلزيم محطة الحاويات لشركة CMA العالمية.

وبفضل تلك الخطوة الجريئة والإدارة المتقنة، عادت الرافعات كلّها إلى العمل، وجُهّزت المحطة بمعدّاتها الحيوية بعدما تمّ تأمين القطع المطلوبة من الخارج بـ«الدولار الطازج»، رغم الأزمة المالية الخانقة.

إصلاح داخلي شامل ونهج عمل متواصل

لم يقتصر العمل على البنية التحتية والتقنية، بل شمل أيضًا إصلاحًا إداريًّا وتنظيميًّا أعاد الحيوية إلى الجهاز البشري.

فقد سُوّيت أوضاع الموظفين، ووُضعت آليات تحفيزية جديدة لضمان استمرارية العطاء.

وعلى الرغم من الأزمات كلّها — من جائحة كورونا إلى الانهيار الاقتصادي وصولًا إلى الحرب الأخيرة — لم يتوقّف المرفأ يومًا عن العمل، بل ظلّ يؤمّن على مدار الساعة (٢٤/٧) شريانًا حيويًا للبنان، حافظ على الأمن الغذائي الوطني ومنع تفاقم الكارثة المعيشية.

أرقام قياسية وإنجازات غير مسبوقة

بقيادة الأستاذ عيتاني، حقّق المرفأ قفزات نوعيّة في الإنتاجية.

فقد بلغ حجم التعامل نحو مليون حاوية نمطية (TEU)، وهو رقم كانت تقديرات البنك الدولي تتوقّع بلوغه في عام 2040، غير أنّ الإدارة الرشيدة أنجزته باكرًا.

وفي عام 2025، سجّل المرفأ رقمًا تاريخيًا باستقباله وتفريغه مئة ألف حاوية في شهرٍ واحد — وهو أعلى رقم منذ إنشاء محطة الحاويات — بفضل العمل الاحترافي لشركة CMA وإشراف الإدارة العامة.

من الحراسة إلى القيادة: مسيرة كفاح ونجاح

ما يميّز الأستاذ عيتاني ليس موقعه فحسب، بل قصّة كفاحه الملهمة.

فقد بدأ مسيرته المهنية في المرفأ عام 1997 كحارسٍ بسيط، قبل أن يتدرّج في مختلف الإدارات — من التجارية إلى المالية فالإدارية — إلى أن تولّى عام 2021 منصب المدير العام ورئيس مجلس الإدارة.

يحمل شهادة ماجستير في إدارة الأعمال، ويجمع بين الانضباط العملي والخبرة الميدانية التي كوّنت لديه رؤية شاملة لإدارة المرفأ كمؤسسة وطنية واقتصادية كبرى.

نتائج ملموسة ونهوض اقتصادي

بفضل هذه الإدارة الدينامية، ارتفعت إيرادات المرفأ من نحو 20 مليار ليرة لبنانية عام 2021 إلى ما بين 150 و160 مليون دولار أميركي عام 2024، في نقلة نوعية عكست تحوّل المرفأ إلى مركز مالي ولوجستيّ موثوق في شرق المتوسط، وأعادت إليه الثقة الدولية.

صفوة القول

إنّ تجربة مرفأ بيروت في عهد الأستاذ عمر عبد الكريم عيتاني ليست مجرّد نجاحٍ إداري، بل ملحمة وطنية تُثبت أنّ الإرادة والعلم والشفافية قادرة على إعادة بناء ما دمّرته الكوارث.

لقد منح هذا الشابّ الطموح المرفأ وهجًا إيجابيًّا، وأعاد إليه نبض الحياة، فصار نموذجًا يُحتذى في القيادة الرشيدة والنهضة الاقتصادية القائمة على الأخلاق والمهنية.

القاضي م. جمال الحلو