بالأمس غادرنا اسكندر حبش.. صديقاً وشاعراً ومترجماً وصحافياً، وذلك بعد مشوار طويل مع مرض لم يقصّر في قتاله الصامت له حتى الرمق الأخير.

في قتاله مع المرض لم يخرج اسكندر عما هو.. وعندما اسميته في عنوان هذه الكتابة (شاعر الصمت) إنما ذلك بعد صداقة استمرت لعقود منذ بداية مشواره إلى ما قبل رحيله.

شاعر كما يجب أن يكون الشاعر.. صامتاً يعطي جداول من العطاء من نبع يخرج هادراً من جوف الصمت. ولعلّ أهم حوارٍ أجراه اسكندر في حياته هو حواره مع نفسه.

صموتاً شغوفاً بالاستماع، كارهاً للتعليق والمواقف الحادّة، اسفنجي التلقّي، عميق غور الإبداع.

حتى هو في بداية مشواره، خصوصاً في الفترة التي جمعته مع شبيب الأمين الذي كان معه من ضمن رهط من الجبل الشاب الذي يبحث عن نفسه وعن هوية وموقع، كان مختلفاً عن الآخرين; بحر هادئ وسط بحار صاخبة.

ولعلّ المرحلة الأكثر أهمية في مشواره هي تلك التي عمل فيها صحافياً في القسم الثقافي في الزميلة «السفير»، وكأنه كان يبحث في تلك الفترة عن قطعة تكمل لوحة (البازل) عنده فكانت.

شبكة علاقات واسعة، مروحة تضم أسماء لامعة في العالم العربي وخارجه أكملت عنده ما يشكّل هويته وشخصيته الشعرية والثقافية. وعندما حصل على شهادة في الفلسفة من اليونان تطعّم نتاجه بنكهة ميّزته عن باقي رهطه. وساهم من خلال وجوده في موقعه الإعلامي ببروز أسماء باتت اليوم لامعة..

وكل ذلك بصمته المعهود.

استيعابه الكليّ للغة الفرنسية التي كان يدرّسها دفعته إلى الترجمة التي أعتقد أنه لم يكن يرغبها لكنها مورد لحالة مادية ضاغطة لم يعرفها إلّا القلائل من كل من تضجّ وسائل التواصل اليوم بعد رحيله بمعرفته والقرب منه على ندرة من كان على ذلك.

في الثلث الأخير من رحلة مروره في هذه الحياة بات عاشقاً لحياته العائلية، ويرى الحقيقة في ذلك، وان الدنيا التي يتمنّاها هي داخل جدران المنزل وليس في ضجة الإعلام وكواليسه وحتى زيفه ولا في علاقاته القليلة مع الوسط الثقافي القشرية بمعظمها، وان لم يقصّر في الإضاءة على الكثيرين خلال عمله الصحفي، الى حد أن وديع سعادة شخّص حالته تشخيصاً دقيقاً عندما قال (اسكندر حبش يجلس في الظلمة ليضيء على الآخرين).

في الختام.. ها هم يتوارون إلى الغيب واحد تلو الآخر ولا يتركون خلفهم إلّا المزيد من الشعور بالوحدة والفراغ المقيت الرمادي الذي يغلّف يومياتنا بالكثير من السخف والهراء.

اسكندر غاب...

سأفتقده أنا شخصياً وسيفتقده كثيرون، وسيبقى صمته مخيّماً كعلامة فارقة على مرور بريق في كل هذا الحلك.