في إحدى زوايا مركز إيواء غرب مدينة غزة، تقبع خيمة لا تختلف عن غيرها في المظهر، لكنها تخبئ بين جنباتها وجعًا يفيض على كل التفاصيل. حين اقتربنا منها، لم نجد فيها سوى الفراغ؛ لا شيء يُذكّر بالحياة سوى رجل أربعيني، وجهه شاحب، وعيناه غائرتان، وجسده الهزيل مسجًى على قطعة إسفنج بالية لا تصلح للنوم ولا لشيء.

اسمه أحمد درويش، في الأربعين من عمره، من ذوي الاحتياجات الخاصة، أُصيب بشللٍ سفلي منذ صغره، لا يستطيع المشي ولا الاعتماد على نفسه. ولكن الحرب الأخيرة، كما يقول، 'جعلت من إعاقتي تفصيلًا بسيطًا في حياة كلها عجز'.

يبدأ أحمد حديثه بصوت خافت يكاد يتلاشى، لكنه يحمل في ثناياه كل أوجاع النزوح والخوف لصحيفة 'فلسطين': 'كنت في جباليا، في بيتنا المتواضع الذي ورثته عن أبي. كنا نعيش ببساطة. لا نملك شيئًا، لكن على الأقل كنا نشعر ببعض الأمان. إلى أن جاء الصاروخ الإسرائيلي وأحال كل شيء إلى ركام. لم أسمع إلا دوي الانفجار، وتهاوت الجدران من حولنا'.

يُضيف وهو يرمق سقف الخيمة المهترئ: 'خرجت أنا وزوجتي من بين الركام. لا أعرف كيف استطعت النجاة، فأنا لا أستطيع التحرك إلا بمساعدة'.

منذ تلك اللحظة، لم يعرف أحمد معنى الاستقرار. نزح أكثر من عشر مرات، من حيٍّ إلى آخر، ومن مركز إيواء إلى آخر، في كل مرة يبحث عن مكان آمن... ولا يجده.

'كنا نحمل ما تبقّى من حياتنا في كيس. مرة في مدرسة، ومرة في مسجد، وأحيانًا ننام في العراء. لم أعد أفرّق بين ليلٍ ونهار. القصف لا يتوقف، والخوف لا يتركنا نلتقط أنفاسنا. كل ما أريده هو مكان آمن أستطيع أن أضع فيه جسدي دون أن أخاف من أن ينهار فوقي'.

يقول أحمد كما ترون: 'فالخيمة فارغة، لا سرير، لا فراش، لا كرسي. فكيف يعيش فيها إنسان مثلي؟ أنا لا أستطيع حتى الذهاب إلى دورة المياه إلا بمساعدة زوجتي. هل من العدل أن تُترك حياتي معلقةً بالخيمة والانتظار والموت المؤجَّل؟'

قبل الحرب، كان أحمد يعيش على المساعدات التي تقدمها الجمعيات الإنسانية. أحيانًا يحصل على طرد غذائي، وأحيانًا أخرى يبيت جائعًا.

'كنا نتحمل. لكن ما يجري الآن ليس فقرًا فقط، بل مجاعة حقيقية. لا أجد ما أُطعم به نفسي، ولا ما أُعطيه لزوجتي. نحن الآن نبحث عن أي شيء يؤكل... حتى الخبز أصبح حلمًا'.

يقول إن وضعه الصحي يزداد سوءًا، وإنه بحاجة إلى طعامٍ صحي يناسب حالته، خاصة بعد أن خسر وزنًا كبيرًا في فترة قصيرة: ويتابع 'أنا لست شخصًا عاديًا، جسمي لا يتحمل الجوع. كل يوم أشعر أنني أقترب من النهاية'.

قبل خمس سنوات، تزوّج أحمد عبر مشروع لتزويج ذوي الاحتياجات الخاصة. يبتسم وهو يذكر تلك اللحظة: 'كانت أسعد أيام حياتي. وجدتُ إنسانةً تقبل بي كما أنا، وصرنا نواجه الحياة معًا. اليوم، هي كل شيء في حياتي، تحملني حرفيًا، تطبخ – إن وجد ما يُطبخ – وتعتني بي، وتواسيني حين أضعف'.

لكنه يُضيف بحرقة: 'أشعر بالعجز لأنني لا أستطيع أن أؤمِّن لها شيئًا. الحرب سرقت منّا حتى اللحظات الصغيرة. لم نعد نتحدث عن المستقبل، بل فقط عن كيف نعيش هذا اليوم، وهل سنصحو غدًا أم لا'.

لا يطلب أحمد المستحيل. لا يحلم ببيت، ولا بسيارة، فقط بكرسيٍّ متحرّك، وبعض الطعام، وغطاءٍ يحميه من الليل القارس. ويقول 'كل ما أريده شيء بسيط جدًا: أن أعيش. أن لا أموت جوعًا أو بردًا. أن أتحرك. أن أشعر أنني إنسان'.

ينهي حديثه قائلاً: 'أريد أن تنتهي الحرب، أن تنتهي المجاعة، أن أعود إلى مكان لا أخاف فيه. نحن لسنا أرقامًا في نشرات الأخبار، نحن بشر، نريد أن نعيش فقط'.

أحمد درويش ليس حالة نادرة، بل هو صورة مكثفة من واقع آلاف ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة، الذين حاصرتهم الحرب والمجاعة والنسيان. خيمته الفارغة ليست فقط مكانًا للسكن، بل مرآة لواقعٍ يغيب عن العالم، ورسالة لمن لا يزال لديهم قلب: في غزة، هناك من لا يستطيع أن يصرخ، لكنه يتألم كل يوم بصمت، وينتظر من ينقذه من الجحيم.