أزمة الشواطئ في لبنان أصبحت جرحاً يُفتح في كل موسم جديد، مع انطلاق السياحة الصيفية وعودة المغتربين ودعايات جذب السيّاح، ليصبح المواطن المقيم غير مستهدف في كل هذه البروباغندا وغير معنيّ بالصيف 'الولعان' بلبنان. 

حوّلت جارتي شرفة منزلها الصغيرة إلى مسبح بلاستيكي لطفليها، جون وسام، وعلى 'ضفاف' المسبح الأزرق الصغير، وضعت كرسيين هزّازين، ومظلّة واقية للشمس. صودف أنني كنت أشاهد حركتها اللطيفة صبيحة ذاك اليوم، وحين مازحتها بأن 'لقد حوّلتِ الشرفة إلى شاطئ يا جارة'، أجابت بسرعة: 'لا نستطيع اصطحابهما إلى الشواطئ، فأتيت بالشاطئ إليهما'.

حال جارتي تشبه حال أمهات وعائلات كثيرة، إذ أصبحت زيارة الشاطئ بالنسبة إليهم بمثابة حلم صعب المنال، فقد تصل كلفة الدخول إلى الشاطئ إلى 50 و60 دولاراً للشخص الواحد، لا سيما في عطلة نهاية الأسبوع، فالأسعار تختلف بين مجرى الأسبوع و'الويك آند'.

يعني ذلك أن عائلة من 4 أشخاص قد يكلّفها دخول أحد الشواطئ بين 200 و240 دولاراً، من دون احتساب كلفة الأكل أو المياه مثلاً. مع العلم أن معظم المنتجعات والشواطئ الخاصة تمنع إدخال المأكولات أو المشاريب، ويخضع الداخلون للتفتيش أحياناً لمنع 'تهريب' أي ساندويش أو زجاجة مياه إلى الداخل. وبالتالي، يضطر الرواد إلى شراء ما يحتاجونه من مطاعم المنتجعات وأكشاكها الغالية في معظم الأحيان. وبذلك، قد تتجاوز تكلفة تمضية عائلة يوماً واحداً على الشاطئ الـ400 دولار بين رسم دخول وطعام.

على طول الساحل اللبناني، الذي يمتد على أكثر من 220 كيلومتراً، تشير دراسات وتقارير مختلفة إلى أن أكثر من 80 في المئة من الأملاك العامة البحرية قد طاولتها التعديات والخصخصة، ما يعني أن أقل من 20 في المئة من الشاطئ اللبناني لا يزال متاحاً للعموم بشكل مجاني، إنما تعاني معظم هذه المساحات من التلوث. ووفق دراسة أجرتها جمعية 'نحن'، عام 2022، فعدد التعديات على الأملاك البحرية بلغ 1108 تعديات على مساحة تصل الى 6.2 مليون متر مربع، لافتاً إلى أن 77 مؤسسة من أصل 1108 تمتلك تراخيص قانونية. علماً أن نسبة كبيرة من هذه المؤسسات تتهرب من دفع الضرائب أو تدفع ما هو قليل مقارنة بأرباحها، فيما يتكبد المواطن تكلفة كبيرة ليسترخي على بحر يفترض أن يكون ملكاً عاماً.

وفي سابقة أثارت جدلاً واسعاً، أصدرت بلدية جبيل، المدينة التاريخية ذات الشاطئ الجميل، أخيراً، قرارات جديدة تفرض شروطاً وُصفت بـ'البوليسية' لدخول شاطئها، وتضمنت منع النرجيلة، ومنع الأكل خارج الأماكن المخصصة، ومنع إدخال المشروبات الروحية والشماسي والكراسي والطاولات الخاصة… وفي حين لم تُفرض رسوم دخول مالية كبيرة على الشواطئ العامة مباشرة، فإن هذه القيود تحد من الوصول المجاني وتجعل ارتياد الشاطئ مشروطاً وطبقياً، لا سيما بالنسبة إلى الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، والباحثين عن متنفس مجاني أو قليل الكلفة.

لبنان الذي يحتاج دخول شواطئه إلى ميزانية، كان تصدر المركز الأول في مؤشر التلوث لعام 2025 بين الدول العربية بنسبة 89.4 في المئة من حجم لبنان

أزمة الشواطئ في لبنان أصبحت جرحاً يُفتح في كل موسم جديد، مع انطلاق السياحة الصيفية وعودة المغتربين ودعايات جذب السيّاح، ليصبح المواطن المقيم غير مستهدف في كل هذه البروباغندا وغير معنيّ بالصيف 'الولعان' بلبنان.

الشواطئ العامة إما متّسخة وملوثة كما في بيروت، ولا تصلح للسباحة، أو أنها تفرض شروطاً صعبة، تجعل مشوار البحر ترفاً يخص الأغنياء والوافدين بشكل أساسي، كونهم نسبياً قادرين على تحمّل التكاليف العالية.

فبين استيلاء المنتجعات على المساحات الشاطئية بدون رقابة صارمة، وبين القرارات البلدية التي تزيد من تضييق الخناق على الشاطئ الشعبي، أصبح ارتياد الشاطئ رفاهية يصعب التقاطها، فمن سيدفع 300 دولار ليسبح في الشاطئ مع عائلته؟

300 دولار تساوي مدخول عائلة في لبنان.

علماً أن لبنان الذي يحتاج دخول شواطئه إلى ميزانية، كان تصدر المركز الأول في مؤشر التلوث لعام 2025 بين الدول العربية بنسبة 89.4 في المئة من حجم لبنان، وذلك استناداً إلى 'مؤشر التلوث حسب الدولة 2025'.

وكان تقرير المجلس الوطني لعلوم البحار عام 2024، تحدث عن مناطق تعاني من مستويات عالية من التلوّث، ولا سيما تلك القريبة من المصانع، والتي تصبّ فيها مياه الصرف الصحي. ولفت إلى أن 80 في المئة المياه الآسنة والصرف الصحي تصبّ في البحر، فيما تشكّل مادة البلاستيك 76 في المئة من النفايات البحرية.

إنه الشاطئ الذي ندفع ثمن ارتياده، فيما تواصل جارتي تنظيف 'شاطئها' الصغير على الشرفة، حتى إنها تربي فيه بعض الأسماك البلاستيكية، حتى يتسلّى أطفالها بمحاولة اصطيادها، فالصيف طويل!