اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
لم تنفع طرقات الطفلة جنى زويد المتواصلة على أبواب إحدى التكايا الخيرية الواقعة عند المفترق الفاصل بين شارعي الصحابة واليرموك وسط مدينة غزة، في فتح أبوابها المغلقة. كانت جنى ومجموعة من الأطفال يجلسون تحت لهيب شمس الظهيرة بأوانٍ فارغة منذ ساعات، قبل أن يتضح لهم أن التكية لا تعمل اليوم.
وقبل أن تصل جنى إلى هذه التكية، جالت على عدة تكايا خيرية أخرى، فوجدت معظمها مغلقًا. ذلك في ظل تفاقم المجاعة في قطاع غزة ووصولها إلى مستويات كارثية مع استمرار إغلاق المعابر منذ أكثر من 140 يومًا، عقب استئناف العدوان الإسرائيلي على القطاع، ما أدى إلى نفاد المواد الغذائية من الأسواق وارتفاع أسعار ما تبقّى منها، وتهديد حياة أكثر من مليونين و300 ألف إنسان بالموت البطيء.
كانت شوارع غزة تعجّ بالمواطنين الذين خرجوا بحثًا عن لقمة تسد رمق أطفالهم. طوابير طويلة من النساء والأطفال بأوانٍ فارغة تجولوا على أبواب التكايا الخيرية، وكلما عادوا خائبين، ارتسم الحزن في أعينهم نتيجة الإغلاق.
صرخة أمام العالم
تحاول الطفلة جنى مسح قطرات العرق عن وجهها المنهك، جلست بين الأطفال أمام باب التكية، يختلط صوتها بزفرات ثقيلة وهي تصرخ: 'إحنا أطفال فلسطين جعنا، تعبنا، حياتنا كلها سوء، بنتنقل من مكان لمكان'.
أصبح حلمها اليومي أن تملأ آنية فارغة، بعد أن أُغلقت في وجهها أبواب الرحمة. تقول لصحيفة 'فلسطين' بصوتٍ متعب وملامح مرهقة: 'منذ الصباح ونحن نتجول على أبواب التكايا، لكنها جميعًا كانت مغلقة. وهذا بسبب الاحتلال الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة من التجويع. نفسنا نعيش مثل باقي أطفال العالم، ونحصل على حريتنا'.
صوتها الغاضب ينضح بالألم، وهي تضرب بيديها وتقول: 'مش عارفين نحل حالنا'، مطالبةً بفتح المعابر وإنهاء معاناة أهل غزة.
عند أبواب التكايا، ترى أجسادًا نحتها الجوع، وعيونًا يملؤها الخوف من مصير مجهول، في مشهد لشعب يقاوم الموت اليومي ليبقى حيًّا، ولو بوجبة واحدة.
بدت ملامح العجز واضحة على وجه آية أبو علي، وهي تحمل آنية فارغة برفقة طفلتها الصغيرة، لا تعرف كيف ستعود بها إلى أطفالها في الخيمة. منذ شهور، تعتمد بشكل كلي على ما تقدّمه التكايا الخيرية، بعد أن تعطل زوجها عن العمل. كانت التكايا ملاذها الأخير، مثل آلاف العائلات الأخرى.
تقول بقلق واضح: 'منذ ساعتين خرجت من الخيمة للبحث عن طعام، لكن معظم التكايا الخيرية كانت مغلقة. حتى آخر تكية نعتمد عليها أغلقت أبوابها، ولا نعرف ماذا نفعل أمام جوع أطفالنا'.
عادت أبو علي، مثل نساء كثيرات، بخيبة جديدة، وبأوانٍ فارغة لا تسد جوعًا.
الرحمة المدفونة
بنفس الحال، تركت أسمهان الجدي أطفالها السبعة داخل الخيمة، وخرجت بحثًا عن طعام. جالت بين أكثر من خمس تكايا خيرية، لكنها وجدتها كلها مغلقة. تحاول كبح دموعها وهي تقول: 'العالم لا ينظر إلى أهل غزة بعين الرحمة. الجميع يرى المجاعة، والحرب، والمجازر، والتشرد، والنزوح، ولا أحد يتحرك. وكأنّ الرحمة ماتت ودفنت. ما ذنب أطفالنا أن يعيشوا هذا الجوع المرير؟'.
كانت الجدي تحمل زجاجة مياه، هي كل ما تناولته منذ الصباح رغم أن الساعة كانت تقترب من الظهيرة. تقول بصوتٍ منهك: 'زوجي مصاب، ومش قادرة أعمل شيء أو أوفر حاجة لأولادي'.
نزحت من حي الشجاعية إلى خيمة قرب ملعب اليرموك. فُرّقت عن عائلتها وأقاربها، ما جعل وضعها أكثر قسوة، وتضيف: 'لو كنا في بيوتنا وبقرب الأهل، كنا على الأقل تعاونّا. لكن أن نواجه المجاعة ونحن نازحون، بلا دخل، ومع تكايا مغلقة.. فهذا أمر كارثي'.
موت بطيء
الفتى حمود أبو سلطان كان يقف مكتوف الذراعين أمام تكية مغلقة، ينتظر أن تُفتح منذ ساعة، لكنها لم تفتح. يقول: 'نعيش ثلاثة عشر نازحًا في خيمة. جئنا من بيت لاهيا إلى غرب غزة. لا يوجد طعام. نعيش موتًا بطيئًا'.
من بين ست تكايا مغلقة، كانت تكية واحدة تعمل، حيث تجمهر أمامها عدد كبير من الأهالي، من النساء والأطفال، يحملون آنيتهم ويصرخون للعمال بأن يملأوها لهم قبل نفاد الطعام. كانت نظراتهم مليئة بالخوف من العودة خاليي الوفاض.
أم أحمد، التي وصلت مبكرًا، استطاعت أن تملأ آنية طعام، وعادت بها إلى أطفالها في الخيمة. تقول: 'تركت خمسة أطفال داخل الخيمة. بالأمس لم أستطع إطعامهم، وبالكاد وفرت لهم شوربة. وناموا على جوع'.
تعتبر ما فعلته بطولة يومية، رغم أن الطعام لا يكفي، لكنه يمثل إنقاذًا لأطفالها من الجوع.
خلال الحرب، استهدف الاحتلال الإسرائيلي 42 تكية طعام في إطار سياسة ممنهجة لتجويع السكان، ما أدى إلى انخفاض حاد في عدد التكايا العاملة. كما قُتل 877 فلسطينيًا فيما بات يُعرف بـ'مصائد الموت' أو مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، وأُصيب نحو 6 آلاف آخرين.