اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ حزيران ٢٠٢٥
على طريق النزوح الطويل من غزة إلى رفح، سلكت عائلة بشير جبر الدرب ذاته الذي سلكته آلاف العائلات الهاربة من الجحيم، دون أن تدري أن الرحلة التي كان يُفترض أن تحملهم إلى الأمان، ستكون نهايتهم المؤلمة، وبداية فصل جديد من المأساة لعائلة فقدت عموديها في لحظة واحدة.
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، نزحت العائلة المكوّنة من ستة أفراد إلى مدرسة 'أسماء بنت أبي بكر' في مخيم الشاطئ، حيث واجهوا ظروفًا إنسانية بالغة الصعوبة، من غياب الخصوصية إلى نقص المياه والطعام والدواء.
وبعد شهر ونصف من محاولات الصمود، صدر قرار جديد بالنزوح بسبب تصاعد القصف في المنطقة. يقول يوسف جبر، ابن شقيق بشير:
'العائلة كانت ترفض النزوح مجددًا، لولا إصرار شقيق زوجة عمي على اصطحابهم إلى رفح بسيارته الخاصة، أملاً بأن يكون المكان أكثر أمانًا'.
ويتابع لـ 'فلسطين أون لاين': 'ما كنت أتخيل إن الرحلة اللي طالعين فيها للهروب من القصف، راح تكون أصعب من القصف نفسه. عبدالله قال لي إنه غفى على حضن أمه، وصحي بين نار وصراخ وما لقاها جنبه'.
في صباح 28 نوفمبر 2023، أقلّتهم السيارة، يقودها شقيق زوجة بشير، وكان الجميع بداخلها: الأب بشير، الأم، أحمد (16 عامًا)، وعبدالله (11 عامًا). لكن بالقرب من جسر وادي غزة، استهدفتهم طائرة حربية بصاروخ مباشر، حوّل السيارة إلى كتلة من اللهب.
استشهد الأب والأم على الفور، بينما كانت صرخات أحمد وعبدالله من تحت الركام 'تقطع القلب'، كما يروي قريب العائلة. 'حاول أحمد بنفسه وقف النزيف وربط رجله المبتورة، ثم فقد وعيه'.
عبدالله أُصيب بشظايا في أنحاء متفرقة من جسده، لا تزال غالبيتها مستقرة داخله حتى الآن، ما يسبب له التهابات متكررة، وآلامًا مزمنة، وإعاقة مؤقتة في حركة يده المصابة بالالتواء.
منة الله (19 عامًا)، الابنة الكبرى، تقول بنبرة منهكة: 'ما بدي أصدق... فجأة صار البيت فاضي. ماما كانت دايمًا تحكي لي: ديري بالك على إخوتك. بس مين بده يدير باله علينا؟ أحمد بعيد لحاله في قطر، وعبدالله كل يوم بوجع جديد، وأنا وحلا (11 عامًا) بننام ونصحى عالدعاء يرجع الزمن'.
وتضيف: 'عيد الأضحى مرّ علينا كأنه جنازة. عبدالله قال لي: ليه ما جبتي بابا وماما؟ كنت حابب أضحك معاهم. ما قدرت أرد عليه. أعيادنا صارت مؤلمة، تفتح جروحًا ما شُفيت أصلًا. وعدا عن المسؤولية الثقيلة، بحس إني كبرت قبل أواني'.
اليوم، تعيش الفتاتان ظروفًا نفسية قاسية. الطفلة حلا ترفض النوم في الظلام، وتبحث يوميًا عن ملابس والدتها، تبكي أمام صورتها. تقول منة الله: 'أختي كل يوم تدور على ريحة ماما، تبحث عنها في وجوه الناس. حتى الآن، ما قدرنا نتجاوز فكرة إنهم مش راجعين'.
أما أحمد، فيخضع لجلسات علاج طبيعي في دولة قطر، تمهيدًا لتركيب طرف صناعي، لكنه يعاني من صدمة نفسية عميقة. يقول في اتصال صوتي لعائلته: 'أنا كبير العيلة هسه... بس حاسس روحي صغيرة، ناقصة، حرمت من والدي'.
ويختم قريب العائلة بحسرة: 'كل واحد منهم جوا جسده كسر، وجوا روحه كسر أكبر. حتى أملهم صار مرتبط بتحويلة أو سماح سفر أو دواء مفقود'.
ورغم كل الخسائر، لا تزال العائلة تصر على الصمود. تقول منة الله: 'راح نكمل، مش لأن الحياة حلوة، بس لأن أمي كانت تقول دايمًا: اللي ضل لازم يكمل'.
فيمضي أفراد العائلة الناقصة، وقد قُطع عنهم الأمان، وأُجبروا أن يكبروا قبل أوانهم، في رحلة بلا نهاية واضحة سوى التمسك بالحياة كما أراد أحبتهم الراحلون.