اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء':
أتمّ محمد عفيف فروضه ودروسه وتقدّم للامتحان النهائيّ ونال الشهادة بدرجة شرف، فقد أمضى أربعة عقود ونيّف في الفوز المتلاحق في امتحانات أركان قيادة المقاومة وامتحانات القيادة الإعلامية، ونجح بالجمع بينهما، تاركاً سيرة خاصة وميراثاً لا يختصر بالحديث عن كونه أنهاه شهيداً في عمل فدائي بطولي ليس انتحارياً على الإطلاق، كما يظن الكثيرون، رغم تكراره بعد استشهاد سيّد المقاومة أمام الكثير من أصدقائه، عبارته الشهيرة، لا طيّب الله العيش من بعدك يا سيّد، وقد قرّرت تكريس هذه المقالة عن هذا الشهيد القائد للحديث بعقل بارد عن ميزاته والخبرات التي تجعل منه مدرسة في القيادة، والقيادة الإعلامية خصوصاً، رغم أن الوجدان يشتعل بالرغبة بالحديث عنه كأخ وصديق لم يندمل جرح فقده، ولا زال يثير في القلب الكثير من علامات الشوق والتوق والجنين والحزن العميق.
خلال أكثر من أربعة عقود من الصداقة والأخوة والمعرفة القريبة وفي مجال العمل الإعلامي، تسنّى لي أن أشهد على ميزات قيادية خاصة شكلت مدرسة محمد عفيف الإعلامية، التي وجدت أن الحديث عنها لكل الزملاء والأصدقاء وجمهور القراء، التكريم الأمثل الذي يتمنّاه ويرضى به في ذكراه، وقد ثابر الحاج محمد كما كان يحبّ أن يُنادى، على توسيع مدى مهاراته لتواكب كل جديد في العلم والتقنيات الإعلامية، وكذلك على متابعة كل جديد في النظريات والاستراتيجيات الإعلامية، إضافة إلى مواكبة المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي في لبنان والمنطقة والعالم، باعتبار الخطاب الإعلامي الصحيح والمبني على المتابعة الدقيقة والصحيحة للمعلومات، هو العمود الفقري للعمل الإعلامي.
أول أركان مدرسة محمد عفيف الإعلامية رفض النظر للعمل الإعلامي باعتباره مهمة وظيفيّة، وعندما تمنّيت عليه قبل سنوات أن يشارك في محاضرة عن الإعلام المقاوم في دورة سناء محيدلي الإعلامية التي شرّفني الحزب السوري القومي الاجتماعي بالإشراف عليها، كتب الحاج محمد نص محاضرته، وكان محور المحاضرة كلها يدور حول أن القضية التي يريد الإعلامي تسويقها والدفاع عنها وخدمتها، ودرجة أحقيتها وملامستها لحقوق الناس، هي العامل الحاسم في نجاحه، ودرجة إيمانه بها وإخلاصه في خدمتها واستعداده للتضحية من أجلها، العامل الحاسم التالي في الأهميّة. وكان اعتقاده الراسخ بأن الفارق بين الإعلام المقاوم وأي إعلام آخر هو أنه لا مكان للموظفين في إعلام المقاومة، بمعنى إعلاميين لا يؤمنون بالمقاومة ويعملون لها كما قد يعملون لغيرها أو لخصومها، وفقاً لمصدر الراتب والجهة التي تملك وسيلة الإعلام. وقد روى حواراً جرى بينه وبين الأستاذ الراحل طلال سلمان عندما أخذ إليه بيده البيان الأول للمقاومة الإسلامية وسأله الأستاذ طلال “من أنتم؟”، فقال عندما أجبت “نحن المقاومة”، أدركت أن اهتمام الإعلام بما يصدر عن المقاومة ودرجة تفاعله مع مصداقيّتها، سوف يكون دائماً صدى لحجم ما تمثل المقاومة، في ميدانها كمقاومة، وليس نتيجة أي شيء آخر. وهذا درس بقي حاضراً في مدرسة الحاج محمد حتى يوم نيل الشهادة.
الركن الثاني في مدرسة الحاج محمد هو الشجاعة والاستعداد للتضحية، لأن الإعلامي المقاوم هو مقاوم أولاً وأخيراً، ويعرف كل مَن عرف الحاج محمد أنه كاد يكون شهيداً في موكب الشهيد السيد عباس الموسوي، وأنه لازم الشيخ الشهيد راغب حرب كمستشار إعلاميّ يكتب بياناته ويوزعها، وأنه كاد يكون شهيداً معه، وأنه مراراً ومراراً كان مشروع شهيد، حتى عام 2006 وبقائه في قناة المنار خلال استهدافها وبعد الاستهداف حتى ينقذ ما يمكن إنقاذه من معداتها وأرشيفها، وما يشكل ضرورة استمرارها، وكان بذلك آخر مَن غادر مبنى القناة المدمّر، ولولا رسالة من السيد نصرالله تأمره بالرحيل لكان قراره استئناف البثّ من الموقع الذي تمّ تدميره، ويعرف مَن راقب تجربة الحاج محمد خلال العدوان الذي تعرّض له لبنان بعد طوفان الأقصى، وخصوصاً بعد استشهاد السيد نصرالله أن إصراره على عقد مؤتمراته الصحافية في الضاحية الجنوبية كان تعبيراً عن قناعته بتلازم الشجاعة والاستعداد للتضحية مع المسؤولية الإعلامية في المقاومة، لكن من دون تهوّر ووفق حساب ودراية ودراسة.
على خلفية هذين الركنين اشتغل الحاج محمد على الاستثمار على جملة من الميزات، التي سوف أذكرها كعناوين يحتاج كل منها إلى الشرح والتفصيل وتقديم الأمثلة على كيفية ترجمتها من قبل هذا النموذج القيادي النادر في الإعلام، وأهمها الثقافة التي لا يتوقف السعي لتنويع مصادرها ومجالاتها وتوسيعها، ومثلها الدقة في نقل المعلومات وتقديم الرواية، والتدقيق في تلقيها وصولاً إلى التحقيق في معرفة مصادرها وصولاً إلى الأصل فيها، ثم الجدّية في كل مهمة وكل عمل يرتبط بها، الجدّية في القضايا التي يعتقدها البعض صغيرة كما لو أنها القضايا الكبيرة، اعتماد الكتابة في كل شيء، تدوين الملاحظات في كل موعد ولقاء ومحاورة ونقل فكرة أو رسالة، وكتابة النص الذي سيُلقيه والتدقيق فيه، رغم ما لديه من ذاكرة ثاقبة ومخزون وافر متدفق وحضور ذهنيّ وقاد، وبديهة سريعة، وتمكّن من اللغة وأدائها، كتابة وخطابة، وكان ينصح دائماً بمواصلة التثقيف الذاتيّ اللغويّ لكل إعلامي، ويبدي إعجابه بكل من يفعل ذلك، ويعتبر ذلك علامة على احترام الذات والهوية والقضية والآخرين، وينظر إلى الأخطاء اللغوية كنقطة ضعف لا يجوز للإعلامي أن يتعايش معها بداعي أن هناك مَن يُصحّح. وهنا يأتي دور المبادرة، فكل من عرف الحاج محمد عرف أنه صاحب مبادرات هي دائماً أفكار من خارج الصندوق، ويشهد الزملاء في المنار الذين رافقوه مديراً للأخبار والبرامج السياسية على ذلك، كما يشهد الزملاء في اللقاء الإعلامي الوطني أن الحاج محمد كان عند كل منعطف أو حدث أو تطور كبير، يبادر للدعوة للتشاور ولديه مجموعة أفكار لمبادرات، لكنه كان منفتحاً بلا تردد ولا عقد على سماع مقترحات الآخرين وغالباً ما كان يحول هذه الأفكار إلى مبادرات بديلة، وقد حدث هذا مراراً، وغالباً كانت مبادراته تنشيطاً للتفكير، ينتج خليطاً مما كان في البداية وما يدور من نقاش حولها وفي كل مرة تكون لفكرة لزميل أو زميلة يتبناها الحاج لتصير هي المبادرة.
في استشهاده الذي كان ثمرة دور رياديّ اختاره لنفسه بعد ما لحق بالمقاومة من ضربات مؤلمة كان أشدها قسوة استشهاد السيد نصرالله ومن بعده السيد هاشم صفي الدين، ولا يستطيع القيام بهذا الدور إلا من اختار الشهادة أو حسم أمرالاستعداد لها، لكن وفق حسابها كمهمة، وليس انتحاراً، وبالرغم مما يمكن إضافته من كثير كثير من أركان مدرسته التي ظهرت بأبهى حللها في أدائه خلال معارك أولي البأس، سوف اكتفي بسبب ضيق المجال في المقال، بشرح فلسفة الحاج محمد لمهمته الأخيرة تلك الي تجلى فيها بأبهى آيات التجلّي، حيث كان اعتقاده أن المقاومة تحتاج مَن يشتري لها الوقت بأن يكون قيادياً استشهادياً مستعداً للتضحية حسم أمر الفوز بالمهمة كما حسم الاستعداد للشهادة، وأن هذا الوقت الضروري كي تلملم المقاومة أجزاءها المتناثرة وتعيد تنظيم صفوفها، وتبلسم بعض جراحاتها، وتقوم ببلورة هياكلها المناسبة لمواصلة الحرب، يجب أن يكون بنظر العدو مملوءاً بصورة القوة والعنفوان والتحدّي، منعاً لظهور المقاومة في لحظة ضعف، والمقاومون في الخطوط الأمامية يحتاجون إلى الشعور بأن هناك مَن يحمي ظهورهم في السياسة بحضور متدفّق لا يهدأ، وأن الصراع مع العدو يستدعي حضوراً يوحي بأن المقاومة تسيطر على كل تفصيل وكل شاردة وواردة، وهذا جزء من مقتضيات الحرب، وكلفة هذا الدور على الأرجح هي الشهادة، وهنا يقول وما قيمة البقاء على قيد الحياة بعد رحيل روح الروح سيد المقاومة، فقد استشهدنا جميعاً يوم استشهد لكننا نكمل فقط لنحمل دمه حتى تحين ساعتنا.
سوف تأتي مناسبات وفرص لنحكي ونكتب الكثير الكثير عن مميزات مدرسة في الإعلام خطتها سيرة هذا القائد الاستثنائي، الذي مثل في الأخلاق والتواضع والصدق والحنان والعاطفة والنبل نسخة مرئية عن سيد المقاومة كما تعلم على يديه هذه الخصال وحاول تعميمها ونثر عطرها حيث يصل الصوت أو النظر أو الحضور.











































































