في زمن تزداد فيه النزاعات وتتباين المصالح، تبرز الوساطة كحل راق لإدارة الخلافات قبل أن تتحول إلى صراعات. هذا ما أكّد عليه المحامي زياد رامز الخازن في محاضرته في مركز مشروع أجيال، حيث عرض بأسلوب علمي وإنساني أهمية اعتماد الوساطة كخيار أول في تسوية النزاعات لما توفّره من وقت وجهد وتكاليف، ولما تزرعه من روح تفاهم وتعاون بين الأفراد والمجتمع.

من هنا ولاهمية المحاضرة ولان النزاعات تزداد في مجتمعاتنا إرتأينا نشر بعض ما جاء في المحاضرة القيمة التي تركز على اهمية اعتماد الوساطة، اما في حال فشلها، فالتوجه الى التحكيم.

قال المحامي الخازن:

الخلافات جزء لا يتجزأ من حياتنا، فهي تظهر في البيت بين الازواج والابناء، وفي العمل بين الشركاء والموظَّفين، وفي المجتمع حيْث تتباين الأَفْكار والمصالح.

ونَحن في لبنان نرى هذه الخلافات يَوْمِيًّا في قُرانا وبلداتنا: بيْن جارين على حدودِ أَرْضٍ، أَو بين عائلتيْن على إِرث، أَو حتّى داخل مجلس بلدي على مشروع إِنمائي. فَإِذا لم تُدار بحكمة، تَتَحَوَّل سريعًا إِلى نزاعات تُهَدِّد وحدة المجتمع.

وأضاف:

لكِنَّ التحدي ليس في الخلاف نفسه، بل في طريقة التَّعامل معه. وهنا يَظْهر أَمامنا خياران أَساسيان:

وِساطة تُقَرِّب القلوب، أَو تَحكِيم يلْزم الأَطراف بِحُكْم نِهائِي.

وقال:

إِنَّ الوِساطة ليست نظرية بل تَبدأُ مِن بيوتنا؛ فهي تُغنِي العلاقة بين الزَّوجين، وتُعَزز روح التَّعاون مَعَ الزُّملاء، وتَفتح المجال لتقَبُّل الآخَر واحترامِ الرَّأي المُختَلف في المجتمع. وهذا ما نَفتَقده اليوم في حياتِنا السِّياسِيَّة، حيث يَسود منطق رفض الآخر بدل الشَّراكة في المواطنة، وصولًا إِلى شعارات الاِنقسام الَّتي باتت مألوفَة.

وتابع:

تخيَّلوا لو أَنَّ روح الوِساطَة سادت في حياتنا السياسِيَّة، لكان الخلاف بين الأَحزاب يُدار بالحوار لا بِالقطيعة، ولكانت المشاركة الوطنيَّة أَوسع وأَعمق.

ولفت الى انه على الصعيد المهني، تركت الوِساطة أَثرًا واضحًا في صياغة لوائِحه القانونيَّة، وجَعلته يطرُقُ أوَّلًا باب الحلِّ الحَبِيِّ والتَّوفيق، قبل اللجوء إلى المحاكم، اِنطِلاقًا مِنَ المبدَأ القائل: «صُلحَةٌ بِخَسارَةٍ مَقبولَةٍ خَيرٌ مِن دَعوَى رابِحَة». كما جعَلته أَكثَر تَقَبُّلًا لِلاختِلافِ، وحرصًا على الخُصومَة الشَّريفَة والنَّقدِ البنّاء.

وعن تعريف الوِساطة وخصائصها قال:

الوِساطَةُ في أَصلِها اللُّغويِّ مَأخوذَةٌ مِن كَلِمَةِ «وَسَطٍ»، أَي ما يَكونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَهٰذا المَعنى يُرمِزُ إِلى العَدلِ والاِعتِدالِ، حَيْثُ يَقِفُ الوَسِيطُ في مَوقِعِ الحِيادِ، لا يَميلُ إِلى طَرَفٍ على حِسابِ آخَرَ، بَل يَفْتَحُ مَساحَةً مُشْتَرَكَةً تَسْمَحُ بِالتَّقارُبِ وإِعادَةِ التَّوازُن إِلى العَلاقَة.

اِنطِلاقًا مِن هٰذا المَعنى، تَطَوَّرَتِ الوِساطَة لِتُصْبح آلِيَّة إِنسانيَّة وقانونيَّة، تَقومُ على الحِوار بَدَلَ الخُصومَة، وعلى بِنَاءِ الحُلول بَدَلَ فَرْضها. فَهِيَ إِحْدى الوَسائِل البَديلَة لِحَلِّ النِّزاعاتِ (ADR)، تَعْتَمِدُ على تَدَخُّلَ طَرَفٍ ثالِثٍ مُسْتَقِلٍّ ومُحايِدٍ ــ يسَمّى الوَسِيط ــ يَعْمَل على إِدارة النِّقاش بَيْن الأَطرافِ المُتَنازِعَة، بِهَدف الوُصولِ إِلى اتِّفاق وِدِّيّ يُرْضِي الجميع.

وتَقومُ الوِساطَة على عِلاقَة ثُلاثِيَّة الأَبْعاد:

الأَطرافُ المُتَنازِعَةُ، الوَسِيطُ، المُنازَعَةُ ذاتُها، الَّتي تُشَكِّلُ مَحورَ التَّدَخُّلِ.

وتَتَجَلّى العَناصِرُ الأَساسِيَّةُ لِهٰذِهِ العَمَلِيَّةِ في:

1. وُجودِ نِزاعٍ قائِمٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ.

2. تَدَخُّلِ طَرَفٍ ثالِثٍ مُحايِدٍ.

3. قِيامِ الوَسِيطِ بِمَهَمَّةِ التَّهْدِئَةِ والتَّقريبِ لِلوُصولِ إِلى أَرْضِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ.

وهٰذا ما نَفْتَقِدُهُ اليَوْمَ في الحَياةِ العامَّةِ والسِّياسِيَّةِ: حَيْثُ تَتَحَوَّلُ الخِلافاتُ إِلى مَعَارِكِ كَسْرِ عَظْمٍ، بَدَلَ أَنْ تَكونَ فُرْصَةً لِحِوارٍ يَرْبَحُ فيهِ الجَميعُ.

وعن خَصائِصُ الوِساطَة الأَساسِيَّة قال:

• الطَّوْعِيَّةُ: لا أَحَدَ يُجْبَرُ على الوِساطَةِ؛ فَالمُشارَكَةُ تَتِمُّ بِرَغْبَةِ الأَطرافِ.

• السِّرِّيَّةُ: كُلُّ ما يُقالُ في جَلَساتِ الوِساطَةِ يَبْقَى فيها ولا يَخْرُجُ إِلى العَلَنِ.

• الحِيادُ: الوَسِيطُ لا يَتَّخِذُ جانِبًا، بَل يُسَهِّلُ الحِوارَ فَقَط.

• التَّواصُلِيَّةُ: تَقومُ الوِساطَةُ على الإِصْغاءِ الفَعّالِ والحِوارِ البَنّاءِ.

• عَدَمُ الإِلزامِ: الوَسِيطُ لا يَفرِضُ حَلًّا، بَل يُساعِدُ الأَطرافَ عَلى صِياغَةِ حَلٍّ يُرضِيهِم.

اما عن مزايا الوِساطَةِ فأوضح:

• المُرونَةُ: لِلأَطرافِ حُرِّيَّةُ اختِيارِ القَواعِدِ والوَسِيطِ.

• السُّرْعَةُ: تَخْتَصِرُ سِنِينَ مِنَ النِّزاعِ إِلى أَشْهُرٍ أَو أَسابِيعَ.

• خَفْضُ التَّكالِيفِ: أَقَلُّ كُلْفَةً مِنَ التَّقاضِي التَّقْلِيدِيِّ.

• الحِفاظُ على العَلاقاتِ: لأَنَّها لا تُنْتِجُ في أغلب الأحيان خاسِرًا ورابِحًا، بَل حُلولًا مُتَوازِنَةً «لا غالِبَ ولا مَغْلُوبَ».

• كَشِفْ الاِحْتِياجاتِ: الوِساطَةُ تُساعِدُ الأَطْرافَ عَلى اِسْتِكْشافِ مَصالِحِهِمُ الحَقيقيَّةِ خَلْفَ المَواقِفِ المُعْلَنَةِ.

واعطى المحامي الخازن مثالا عمليٌّا:

في إِحْدى القُرَى اللُّبْنانِيَّةِ، اختَلَفَ جارَانِ على شَجَرَةِ زَيْتُونٍ عِندَ حُدودِ أَرْضهِما. قَبْلَ أَنْ يَلْجَآ إِلى القَضَاءِ، تَدَخَّلَ أَحَدُ وُجهَاءِ البَلْدَةِ، فَاسْتَمَعَ إِلى الأَطْرافِ، ووَجَدَ صِيغَةً تَحْفَظُ كَرامَتَهُما مَعًا. النَّتيجَةُ: اِنْتَهَى النِّزاعُ وبَقِيَت المَوَدَّة.

اما عن التَّحكِيمِ فقال:

التَّحكِيمُ نِظامٌ قانُونِيٌّ لِتَسْوِيَةِ النِّزاعاتِ خَارِجَ المَحاكِمِ القَضائِيَّةِ، حَيْثُ يُوافِقُ الأَطْرافُ على عَرْضِ نِزاعِهِم على شَخْصٍ أَو هَيْئَةٍ مُحايِدَةٍ (المُحَكِّمُ) لِتُصْدِرَ قَرارًا مُلْزِمًا. يَنْشَأُ التَّحكِيمُ بِاتِّفاق الأَطْراف، وغالِبًا ما يُتَمُّ تَضْمِينُ «شَرْطِ التَّحكِيمِ» مُسْبَقًا في العُقودِ.

وبالنسبة لمَزايا التَّحكِيمِ اوضح:

• يَنتج عنه قرار إلزامي في غالب الأَحيان لا يُسْتَأْنَفُ.

• يُخْتارُ المُحَكَّمُونَ لِتَخَصُّصِهِم أَو خِبْرَتِهِم في مَجالِ النِّزاعِ.

• يُنَفَّذُ القرار التحكيمي في لُبْنانَ وفي أَكْثَرَ مِنْ 159 دَوْلَةً بِمُوجِبِ «اِتِّفاقِيَّةِ نِيُويُورك».

واعطى المِثالٌ العَمَلِي التالي:

شَرِكَتان في قِطاعِ المُقاوَلاتِ اختَلَفَتا حَوْلَ مَشْرُوع ضَخْمٍ. لَوْ لَجَأَتا إِلى القَضَاءِ، لاِسْتَغْرَق النِّزاعُ سَنَوات طَويلَةً. لَكِنْ بِالتَّحكِيمِ، صَدَرَ قرار تحكيمي خِلالَ ثَمانِيَة أَشْهُرٍ وأَنْهَى القَضِيَّةَ نِهائِيًّا.

وفي لُبْنانَ، نَعْرِفُ كَمْ مِنْ نِزاعٍ في قِطاعِ البِناءِ والعَقاراتِ عُلِّق سَنَوات في المَحاكِمِ، فِيمَا كان يُمْكِن لِقرار تَحْكِيمِيٍّ أَنْ ينْهِيه سرِيعًا ويُعيدَ إِطْلاقَ المَشْرُوعِ.

وحول الفُرُوقات الجَوْهَرِيَّة بَيْنَ الوِساطَةِ والتَّحكِيمِ شرح:

• القَرارُ: في الوِساطَةِ بِيَدِ الأَطْراف، وفي التَّحكِيمِ بِيَدِ المُحَكِّم.

• الطَّبِيعَةُ: الوِساطَةُ رِضائِيَّةٌ، أَمّا التَّحكِيمُ فَمُلْزِمٌ.

• الكُلْفَةُ والوَقْتُ: الوِساطَةُ أَقَلُّ كُلْفَةً وأَسْرَعُ، والتَّحكِيمُ أَعْلى كُلْفَةً لَكِنَّهُ أَسْرَعُ مِنَ القَضاءِ.

• العَلاقاتُ الإِنسانيَّةُ: الوِساطَةُ تُحافظ عليها، بَيْنَما التَّحكيم قد يقْطَعُها بترك طَرَف خاسر وآخر رابح.

وعن دَوْر الوَسِيطِ وَالتِزامه بِقَواعِد الأَخْلاقِ وَالآداب قال:

1. الاِسْتِقْلالِيَّةُ وَالحِيادُ: لا يَنْحازُ، لا يَنْصَحُ، لا يَحْكُمُ، ولا يَرْتَبِطُ بِأَيِّ عَلاقَةٍ مَعَ الأَطْرافِ.

2. النَّزاهَةُ وَالسِّرِّيَّةُ: يَتَصَرَّفُ بِأَمانَةٍ، ويُحافِظُ على سِرِّيَّةِ ما يُقالُ داخِلَ جَلَساتِ الوِساطَة.

3. الحُرِّيَّةُ: المُشارَكَةُ طَوْعِيَّةٌ، ولِلأَطْراف الحَقُّ في الاِنْسِحابِ من جلسات الوِساطة في أَيِّ وَقْت كان.

4. الهُدُوء وَضَبْطُ النَّفْسِ: يُحافِظ على أَجْواءٍ إِيجابِيَّةٍ لِلْحِوار حَتّى في الأَزْماتِ.

5. الإِصْغاءُ وَالتَّواصُلُ الفَعّالُ: يُمْنِحُ كُلَّ طَرَفٍ فُرْصَةً مُتَكافِئَةً لِلتَّعْبيرِ، ويُشَجِّعُ الحِوارَ البَنّاءَ.

6. تَسْهِيلُ الحِوارِ: يُهَيِّئُ مِناخًا آمِنًا يُمَكِّنُ الأَطْرافَ مِن طَرْح قَضايَاهُمْ بِوُضُوح.

7. كَشْفُ الاِحْتِياجات: يُساعِدُ الأَطْراف على اسْتِكْشاف مَصالِحهم الحَقِيقِيَّة خلْف المَواقِفِ المُعْلَنَة.

8. اِحْتِرامُ القانُونِ: يَلْتَزِمُ بِالقَوانينِ ولا يَتَجاوَزُها.

9. رُوحُ التَّعاوُنِ: يَفْتَحُ المَجالَ لِمُشارَكَةِ الجَميع في صِياغَةِ الحَلِّ النِّهائيّ.

10. تَسْهِيل ابْتِكارِ الحلول: وَحَثُّ الأَطْرافِ على الوُصولِ إِلى اِتِفاق مُرْضٍ لَهُما.

وحول تِقْنِيّات الوِساطَة شرح:

إِلى جانِبِ صِفاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، يَسْتَخْدِمُ الوَسِيطُ مَجْمُوعَةً مِنَ الأَدَواتِ وَالتِّقْنِيّاتِ الَّتي تُساعِدُهُ على تَسْهِيلِ الحِوارِ وبِناءِ بِيئَةٍ تَعاوُنِيَّةٍ تُؤَدِّي إِلى اتِّفاقاتٍ عادِلَةٍ وَمُسْتَدامَةٍ.

وعن أَهَمُّ تِقْنِيّات الوِساطَة أوضح:

• الإِصْغاء الفَعّال: لِفَهْمٍ أَعْمَق لِوُجُهات نَظَرِ الأَطْراف وتَعْزيز الثِّقَة المُتَبادَلَة.

• طَرْحُ الأَسْئِلَة الاِسْتِكْشافِيَّة: لاِسْتِخْراجِ المَعْلُوماتِ وتَشْجِيعِ التَّفْكيرِ الإِبْداعِيِّ.

• إِعادَةُ صِياغَةِ الأَفْكارِ: لِتَوْضِيحِ الرَّسائِلِ، وإِزالَةِ الاِلْتِباسِ، وفَتْحِ آفَاقٍ جَديدَةٍ لِلْحُلولِ.

• العَصْفُ الذِّهْنِيُّ: لِتَوْلِيدِ بَدائِلَ وأَفْكارٍ مُبْتَكَرَةٍ تُساعِدُ على التَّوَصُّلِ إِلى حُلولٍ مُتَوازِنَةٍ.

وقال المحامي الخازن:

تخيَّلوا لوِ اعتمدنا اليوم الوِساطَةَ لِحَلِّ أَزْماتِنا السِّياسيَّة الكبرى، مِن تشكيل الحكومات إِلى الأَزْمات الدُّسْتُورِيَّةِ، لَوفرنا الكثير من الوقت والاِحتقان، ولكانَ الحوار طريقنا الأَوَّل بَدل القطيعة.

في الختام اكد انه:

وبعد أَنْ بينَّا الفوارق بين الوِساطَةِ وَالتَّحكِيم، وتوقفنا عند مَزايا كلٍّ منْهما وخصوصيَّته، يُمكن أَنْ نجمِل المسأَلة في الخِتام بِعبارة واحدة تختصر كل شيء: الوسِيط يُقَرِّب و يُوَفِّق … والمُحَكِّم يُلْزِم. الوِساطَة تَسعى إِلى أَنْ يربح الجميع ضمن توافق مُرْض، بينما التَّحكيم يَحسم بِرابِح وخاسِر؛ لكنَّ الخاسر الأَكبر هو مَن يرفض الحِوار مُنْذُ البِداية.

الوِساطَة ليست بديلًا عن التَّحكيم، لكنَّها الخِيار الأَوَّل الَّذي يَجْدر بِنا أَنْ نجرِّبه. فَإِن نجحت، رَبِحنا الوقت وحافظنا على العلاقات والمصالح والإحتياجات؛ وإِن فشلت، يبقى التحكيم ممكناً.

وهكذا نَقِفُ أَمام خيارين: إِمّا الحِوار والتوافق ، وإِمّا الحكم المُلْزِم وكِلاهما ــ إِذا اُسْتُخدم بِحكمة ــ يَبني مجتمعًا أَكثر عدلًا وتماسكًا.

بهذا المنهج، نقول كموقع المرده انه لا بد من إعادة إحياء ثقافة الوساطة في مجتمع أنهكته الخصومات، لان ربح الوقت والحفاظ على المودة لا يقلان أهمية عن ربح الدعوى.