عندما ألغيت انتخابات جديتا البلدية في العام 2016، في ذروة معمعة انتخابات حُرّفت لتظهر البلدة وكأنها ذاهبة إلى حرب أهلية، لم يكن مقدراً أن تطول فترة حرمانها من سلطتها المحلية لتسع سنوات متواصلة. ظُلمت جديتا عندما اتهمت بالطائفية... والتهمة كما تبين لم تكن يوماً من شيم أهلها. فعاند هؤلاء وصبروا، وحافظوا على بلدتهم 'وردة على صدر البقاع'. واليوم بعد تسع سنوات من الانتظار، يبدو الزمن وكأنه توقف عند تاريخ صدور إلغاء انتخاباتها. فالنقاش حول الأعراف القديمة والتحولات الديموغرافية قائم وإن بأشكال مختلفة، والعين شاخصة على احترام معادلة التوازن بين العائلات والطوائف، إنما من دون أن يعكر ذلك حماستها للانخراط بقوة في 'عرس الديمقراطية'، هذه الحماسة التي تجعل جديتا سباقة في حملاتها الانتخابية، 'الواقعية' و'الافتراضية'.

من على سفح جبل الكنيسة تشرف جديتا على سهل البقاع المتمدد في إطلالة بانورامية أمامها... فتبدو نقطة العبور الاستراتيجية نحو مدن المحافظة وقراها، في أناقتها المعهودة، على رغم ما شهدته من خضات مالية وعقارية، دفعت بمحافظ البقاع كمال أبو جوده للتوجه إلى القضاء في محاسبة موظفين متورطين بقضايا تزوير واختلاس.

لم تكن المهمة سهلة بالتأكيد على محافظ تولى مهمات ست بلديات أخرى إلى جانب جديتا، وفي ظروف مالية هي الأسوأ في تاريخ البلديات. ولكنه نجح في جديتا تحديداً، بسبب تفاعل أبنائها مع قضايا بلدتهم. فخلق هؤلاء أيضاً جسور عبور سهلة إلى العمل البلدي يعبّر عنه المشهد الانتخابي المبكر المحيط بالقصر البلدي.

معركة على مرمى حجر من القصر البلدي

على بعد أمتار من البلدية أقامت حملة 'معاً أقوى' برئاسة المهندس جورج خزاقة مكتبها الانتخابي الرئيسي، فيما منزل زوج عمته رئيس حملة 'جديتا بتجمعنا' العميد المتقاعد ميشال خاطر، على بعد تقاطع طريق من مبنى البلدية، تحول أيضا خلية عمل متواصلة. وبينهما بدأت تتمدد 'بوسترات' الحملات الانتخابية وصور المرشحين إلى تزايد في المرحلة المقبلة، لتظهر المنافسة 'على المنخار' بين المهندس الشاب وزوج عمته المخضرم، وحظوظ كل منهما بالربح على مرمى حجر فقط من القصر البلدي، حتى لو تشظّت وسط حملتيهما كل الأعراف.

لا يترشح العميد خاطر للانتخابات لأول مرة. بل كان رأس حربة معركة العام 2016، عندما طرح تعديل عدد مقاعد السنّة في المجلس البلدي المؤلف من خمسة عشر عضواً، من أربعة إلى خمسة. اعتبر طرح خاطر حينها سابقة يمكن أن تسيء إلى التوازن الطائفي في المجلس، لتتكشف من بعده النيات المبيتة بحرمان جديتا انتخاباتها. حينها وجهت أصابع الاتهام إلى الراحل إميل حنوش، أحد أصحاب 'مطعم حنوش' المتمتع بنفوذ الفعاليات والشخصيات السياسية اللبنانية والسورية البارزة التي كانت تلتقي في مطعمه طيلة فترة الوجود السوري في لبنان وما بعده.

المقاعد توزع بين ثلثين للمسيحيين وثلث للمسلمين

يعود خاطر إلى الانتخابات البلدية اليوم بالطرح نفسه، فهذا برأيه 'حق يتناسب مع حجم الكتلة السنية الناخبة في البلدة، والتي زاد عددها في السنوات الماضية بحيث أصبح من الضروري توزيع مقاعد المجلس بنسبة ثلثين للمسيحيين وثلث للمسلمين'. مشيراً إلى أنه 'حتى من حاربوني حينها على الطرح، عادوا واعتمدوا التقسيم الطائفي نفسه في الانتخابات الجارية'.

في المقابل، لا يبدو الطرح مرفوضاً من لائحة 'معا أقوى'. ويسير المهندس خزاقة به بثقة، شارحاً أيضاً أن لائحته صارت مكتملة، وفيها ثلاثة مرشحين كاثوليك من بينهم الرئيس، ثلاثة أرثوذكس، أربعة موارنة، وخمسة مرشحين سنة. التوزيع الطائفي نفسه يعتمد في لائحة 'جديتا بتجمعنا' وإنما مع فارق جوهري أساسي، فرئيس لائحة 'معا أقوى' كاثوليكي، بينما على رأس 'جديتا بتجمعنا' مرشح ماروني... فهل يشرع ذلك الأبواب على معركة كاثوليكية - مارونية في البلدة، ولمن يخصص مقعد الرئاسة عرفاً فيها؟

يبادر خزاقة إلى القول: 'سقطت الأعراف عندما بدلنا في توزيع عدد مرشحي كل من المذاهب في اللوائح'. وبنعيه هذه الأعراف، يقر بأن 'الرئاسة كانت في دورتين سابقتين لماروني، ولكن قبل الولايتين كان يترأس البلدية أرثوذكسي وقبلهما سني، كلنا أولاد البلدة وهدفنا هو الخدمة'.

معركة زوج العمة الماروني مع النسيب الكاثوليكي

يؤكد زوج عمته العميد خاطر أيضا أن المعركة ديمقراطية وعائلية بدرجة عالية، ولا ضغينة فيها من أي طرف تجاه الآخر. إلا أن عرف الرئاسة كما يقول خاطر 'لا يجب أن يسقط، وهي في البلدة لماروني، لأن العائلات المارونية هي الأكبر في البلدة، ولأن هذا كان الواقع الذي ساد في السنوات الماضية'. شارحاً أنه في الأساس لم يكن راغباً بالترشح، ولكن ترشحه جاء بطلب من عائلات جديتا المارونية، التي ترى أن التنافس على الرئاسة بين مرشحين كاثوليكيين يشكل سابقة لن تؤدي إلى النتيجة المرجوة في البلدة.

عندما قرر العميد خاطر أن يخوض المعركة مجدداً انضم إليه نسيب جورج خزاقة المرشح إيلي خزاقة الذي كان يتهيأ لتشكيل اللائحة الثانية، وبالتالي انحصرت المعركة على الرئاسة حتى الآن بين خزاقة الكاثوليكي وخاطر الماروني، ويبدو أن أي منهما غير مستعد للتنازل للآخر.

إلا أن القلق في البلدة هو من أن يتحول التنافس إلى معركة تشطيب مذهبي، خصوصاً أن العميد خاطر بترؤسه اللائحة التي يؤكد أنه شكلها 'براسه' تمسك بأربعة مقاعد للموارنة، بينما يقول خزاقة إن لائحته 'قللت من عدد المرشحين الكاثوليك في اللائحة لأن الرئاسة لكاثوليكي'. وبالتالي كان المتوقع أن تقتطع حصة السنة في اللائحة المنافسة برأيه من حصة الموارنة لكون رئاستها لماروني ويبقى فيها أربعة مرشحين كاثوليك.

الفتنة مستبعدة

الموضوع حسابي وفقاً لما تقوله أوساط خاطر، والموارنة في البلدة هم العائلات الأكبر عدداً، وكذلك أعداد السنة إلى تزايد، وبالتالي ما يقوم به العميد هو التوزيع العادل الذي يجب أن يسود في المجلس البلدي.

على رغم احتدام هذا النقاش في البلدة، لا يبدو في المقابل أنه مرشح ليتطور إلى فتنة طائفية كما تؤكد الأطراف جميعها، لا بل يؤكد خاطر 'أن الفتنة أبعد ما تكون عن أجوائنا، ولم يسجل في بلدتنا أي حادث طيلة فترة الحرب اللبنانية'. أما الأحزاب فهي بعيدة جداً عن أجواء الانتخابات، لا بل تتحدث أوساط معنية 'عن تدخلها لمنع أي تدخل حزبي'، إلى حد سحب بعض الأحزاب لرؤساء أقسامها خشية من أن يحرقها التنافس على أبواب انتخابات نيابية مقبلة. وهذا ما يجعل انتخابات جديتا، بعيدة عن كل تأثير سياسي على معركتها، إلى جانب تخففها من سطوة العائلات التي تمتعت بالنفوذ السياسي.

أيا يكن الأمر، فإن جديتا تتهيأ اليوم لتعيد إنتاج بلديتها بما يحقق طموحات أهلها. ووسط تقاطع الطموحات الشخصية مع التوازنات الطائفية، يبقى الحرص بأن تتجاوز البلدة امتحان التنافس بأقل كلفة ممكنة، لتُعيد انتظام مؤسساتها وتفتح الباب أمام تنمية محلية تعيد لها مكانتها كواحدة من أبرز بلدات البقاع. فهل تنجح هذه المرة، في تحويل المعركة إلى فرصة؟ أم أن لعنة الأعراف ستظل تلاحق مجلسها المقبل؟