اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٣٠ أذار ٢٠٢٥
'رحل الرجل الكبير وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخي أحمد أبو صالح، لن تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات ولا يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته، وذكر مآثره وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيين، أولئك الذين عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبء الذاكرة، ومن يكتب سيرة من لا سير لهم في بطون الكتب أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس وخلفوا أثارا عميقة تدل على غيرهم ولكنها لا تدل عليهم'.
بهذه الكلمات المؤثرة يفتتح علي الشيخ يونس (الممثل تيم حسن) مسلسل 'التغريبة الفلسطينية'، أمام جثة أخيه أحمد الشيخ يونس (جمال سليمان)، الشخصية التي تعد نقلة نوعية في صورة الفلسطيني في الدراما، فغالبا يصور الفلسطيني بشكل سطحي، إما رجل عصابات، أو شخصية تقاوم الاحتلال كواجب وطني.
بُنيت شخصية أبو صالح كشخصية إنسانية عميقة، لها عيوب تعيق تقدمها، ودوافع تحركها نحو أهداف كبيرة، وخُلقت بظروف قاسية لتكسب تعاطف المشاهدين، وتترسخ في ذاكرة الشعوب العربية.
أحمد الشيخ يونس.. سنوات التكوين
شاب ريفي بسيط لم يكمل تعليمه بسبب الفقر، يتعرض للظلم في محيطه الفلسطيني، فعائلته ضعيفة لا 'حمولة' لها بحسب التعبير الفلسطيني، أي ليست ذات شوكة وقوة، فكانت عائلته تتعرض لظلم اجتماعي كبير.
تعرّض الشاب أحمد الشيخ يونس لمظالم كثيرة، فقد حرق زبانية أبو عايد بيدر عائلته، وقتلوا وسيلة النقل الوحيدة لديهم (الحمار)، ورفض أبو عايد -مالك معصرة الزيتون الوحيدة في القرية- عصر زيتون عائلة أحمد الشيخ يونس، هذه مظالم قد تبدو بسيطة، وتكثر في الأرياف، لكنها مزعجة لأحمد الذي بحث عن أقاربه (حمولته) ليستقوي بهم على أبو عايد لكنهم خذلوه وتبرؤوا منه.
محاولاته المتكررة لرد هذه المظالم وتغيير حالة الأسرة غالبا ما تصطدم بالأب (الممثل الراحل خالد تاجا) الشخصية المستسلمة الخانعة للظلم، الذي يمتلك قاموسا من العبارات يكررها على أبنائه: 'أحنا مش قدهم، ما عندنا حمولة'، لتثبيطهم على المطالبة بحقوقهم، وهنا ينشأ الصراع بين الأب الذي يعمل بمقتضى المثل الشعبي 'امش الحيط الحيط وقول يا رب السترة' والابن الذي يريد هدم الحائط المائل ليقيمه على الحق والعدل.
أبو صالح كأي ثائر سوري؛ مثل الساروت وأبو فرات، يتجاوز الواقع أو يتجاهله بحيلة نفسية هدفها الصمود ومتابعة القتال، فهو يرفض احتمالية الخسارة أمام الاحتلال، وهذا حال أغلبية ثوار سوريا قبل سقوط النظام، رغم المؤشرات الكثيرة لتعويم الأخير حينذاك
سلبية الأب واستسلامه جعله يرفض تعليم أبنائه، لكن أحمد يحاول أن يثنيه عن قراره ويجادل الأب بأن العلم هو سلاحهم الوحيد لمستقبل جيد -خصوصا- أنهم بلا مال، ولا حمولة، فيرضخ الأب ويرسل أخوه لإكمال دراسته في المدينة رغم فقرهم وعوزهم، ونجح بحماية أخوته، ولعل مشهد هجومه على أستاذ المدرسة الذي ضرب أخوه الصغير علامة فارقة بحياة العائلة فقد أصبح أحمد حمولة للعائلة المستضعفة.
هكذا زُرعت شخصية أحمد في تربة الظلم الاجتماعي، وسُقيت بماء العنصرية، وقلة الحيلة، لتثمر شخصية قيادية صلبة، مؤثرة، لا ترضخ لظالم، ولا تصمت عن حق، وظهر ذلك عندما حشد الناس للمطالبة بأراضي المشاع التي استولى عليها أبو عزمي العلي، وتخلى عنها وجهاء القرية خوفا، وكان يقول للناس: 'إذا خفنا اليوم من أبو عزمي، كيف بدنا نواجه اليهود والإنجليز بكره؟'. لكن الناس الذين يحبونه لم يحموه من أبو عزمي الذي تمكن منه، وجلده على مرأى ومسمع منهم.
كانت هناك محطة رئيسة بحياته عندما سجن في زنزانة واحدة مع المقاوم الفلسطيني سعدي (عبد الحكيم قطيفان)، الذي أُعدم أمامه، فتعزز شعوره بالظلم، ورغبته الصادقة بالثأر، فانتقل من مناهضة ظلم الأهل متجسدا بـ 'أبو عايد وأبو عزمي' إلى مجابهة ظلم العدو المحتل.
التحول إلى شخصية الكايد أبو صالح
بعد هذه المحطات الرئيسية في حياته، جاءت الثورة الفلسطينية ضد الإنجليز ليتحول أحمد الشيخ يونس إلى القيادي الثوري أبو صالح، وليترأس فصيلا مسلحا يرهب الاحتلال، وأصبحت له حمولة أكبر من كل الحَمَائِل، وأقاربه الذين رفضوا مساندته أصبحوا ينسبون أنفسهم إلى حمولته.
أبو صالح رجل نزيه، استطاع أن يتشافى من كل جراحه النفسية، ويتعالى على كل مظالمه الشخصية، فلم يدنس سلاح الثورة الطاهر بالانتقام، وتقبل أن يشارك أبو عزمي ثورته ضد الإنجليز. هنا ظهر الفرق جليا بين الثائرين على الظلم والثائرين للمحافظة على جاههم ومصالحهم، والذكاء الفطري للناس يميز بين هذا وذاك، فهم يحبون أبو صالح وينتسبون لفصيله، بينما يتسرب المنتسبون لفصيل أبو عزمي واحدا تلو الآخر، وصدق حدس الناس، فبعد أن جُلد أبو عزمي نتيجة فساده، انقلب على الثورة وبدأ يتعامل مع الإنجليز علانية؛ هذا يذكرنا بملف المصالحات بين النظام وبعض الشخصيات الثورية.
نهاية الثورة
الثورة انتهت، لكن الكايد أبو صالح دخل بحالة إنكار لنهايتها، ولعل المشهد الذي جمعه مع رفيق سلاحه الحموي يجسد هذا الإنكار، ويذكرنا بحالة كثير من الثوار السوريين الذين يعترضون عن فكرة انتهاء الثورة بسقوط النظام.
يقول لرفيق السلاح بعد محاولات أخيه مسعود إقناعه العودة للقرية: 'أنا ما رح أرجع ما دام بارودتي فيها رصاص.. معاي عشرين طلقة'، فيرد عليه رفيق ثورته: 'وأنا معي قدن، يعني الثورة ما انتهت'.
العودة للقرية تعني إحياء لشخصية أحمد اليونس ومظالمها الصغيرة، الشاب الريفي غير المتعلم، الذي يشبه قادة الفصائل السورية اليوم، ودفن شخصية الكايد أبو صالح المشبعة بعنفوان الثورة ومجدها، يقول: 'قد ما كنت أحاربهم وأنتصر عليهم، كنت أحارب حالتنا الأولى'.
وبالعودة للقرية يبدأ صراعه النفسي بين شخصية الكايد أبو صالح وشخصية أحمد اليونس، الصراع الذي يرافقه حتى مماته.
مع بداية حرب الـ48، انتعشت روح الكايد أبو صالح الثورية، فأصبح يرى نفسه القائد وليس صاحب الدكان الصغير، فتوهم أن أمجاده الثورية يمكن أن تعود، ويمكن للروح أن تدب في شخوص رفاق سلاحه في الصورة المعلقة على جدار بيته، الصورة التي لا يكل ولا يمل من الحديث عنها، وعن كيفية استشهاد كل ثائر فيها.
أبو صالح كأي ثائر سوري؛ مثل الساروت وأبو فرات، يرفض الواقع أو يتجاهله بحيلة نفسية هدفها الصمود ومتابعة القتال، فهو يرفض احتمالية الخسارة أمام الاحتلال، وهذا حال أغلبية ثوار سوريا قبل سقوط النظام، رغم المؤشرات الكثيرة لتعويم الأخير حينذاك، حتى أنه يرفض سماع أخبار المجازر كيلا تضعف همته في الجهاد ضد الاحتلال، يقول: 'هذا اللي قصدوه من دير ياسين، يخوفونا مشان نهاجر من دون قتال، بس إحنا مش طالعين من هون، لو بدنا نموت كلنا'.
استدعاء أحمد اليونس إبان حملة اعتقالات في المخيم أنعشت روح الكايد أبو صالح 'اللي مرّغ وجوه الإنجليز بالتراب'. لكنه تيبس في مكانه، توسعت عينه وجحظت، وساد صمت دهشته طويلاً عندما أخبره المحقق بأن التحقيق انتهى ويمكنه المغادرة بسلام، فقد صُنف أبو صالح أنه لا يشكل خطورة على الاحتلال، كل هذا التاريخ الثوري، وهذا النضال الطويل لا يشكل خطورة على دولة الاحتلال! كان ذلك التصنيف وهذا الترك رصاصة الاحتلال الأخيرة على قلب الكايد أبو صالح، مات أبو صالح كمداً عندما أدرك أنه لا يشكل أي خطر على الاحتلال.
مشاهدة المسلسل مرة تلو الأخرى تطرح تساؤلاً: كم أبو صالح بثورتنا السورية، بحاضرها وماضيها، لا يُذكَرون وتتناساهم وسائل الإعلام وأقلام الناشطين؟ وكم من أمثال أبو عزمي يحاضرون علينا اليوم بماضيهم الثوري 'المجيد'؟