اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٥ تموز ٢٠٢٥
في عالمنا المعاصر، تلعب الشائعات دوراً محورياً في تشكيل ملامح الواقع الاجتماعي، حيث تصبح الحقائق مشوّشة، وتُدمغ السمعة بتهم لا أساس لها. تتسلل هذه الشائعات إلى نسيج الحياة اليومية بطريقة غير مرئية، ولكن تأثيرها على الأفراد والمجتمعات غالباً ما يكون مدمراً. لن نتطرق إلى قصة معينة أو حادثة بعينها، بل نغوص في ظاهرة اجتماعية قديمة ومتجددة كيف تتأثر حياة الفرد والمجتمع بالشائعات، وكيف يُمكن أن تهدّد الحقيقة في عصر التواصل السريع. هل الشائعات أداة للتدمير الاجتماعي؟
لا تقتصر الشائعات على كونها مجرد أخبار كاذبة تُنقل من شخص إلى آخر، بل هي ظاهرة اجتماعية ذات تأثيرات عميقة. قد تكون الشائعة في البداية مجرد كلمة غير مؤكدة، لكنها مع مرور الوقت، وإذا انتشرت بين مجموعة واسعة من الناس، تتحوّل إلى حقيقة في أعين المجتمع. هذا التحوّل يحدث عبر سلسلة من العمليات النفسية والاجتماعية التي تجعل الأفراد يتقبّلون ما يُقال دون تمحيص أو تدقيق. ويكمن الخطر في أن هذا القبول يُترجم إلى استجابة سريعة قد تؤدي إلى تدمير حياة شخص ما، بناءً على تفسير مغلوط أو مشوّه للحقائق.
الشائعات قد تكون محرّكاً رئيسياً للهجوم على سمعة الأفراد، خصوصاً إذا كانت تتعلق بتهم خطيرة مثل التحرش أو السرقة أو الخيانة. في مثل هذه الحالات، يمكن للشائعات أن تؤدي إلى عواقب كارثية، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. فبمجرد أن تلتصق الاتهامات بأحدهم، يصبح من الصعب على هذا الشخص التخلص منها، حتى وإن كانت الاتهامات لا أساس لها من الصحة. فهل الضغط الاجتماعي الفضاء الذي تغذّي فيه الشائعات؟
في المجتمعات التي تتسم بالضغط الاجتماعي، حيث يسعى الأفراد إلى تلبية توقعات وآراء الآخرين، تصبح الشائعات قوة لا يمكن تجاهلها. الإنسان في هذه المجتمعات يميل إلى الانصياع لما يراه الآخرون على أنه «حقيقة»، حتى لو كانت هذه الحقيقة مجرد سخرية أو تشويه للواقع. في مثل هذه الحالات، تتداخل النوايا الفردية مع العوامل الاجتماعية، حيث يشعر الشخص أنه مضطر للتصرف بما يتماشى مع ما يظنه المجتمع صحيحاً، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة.
هذا الضغط الاجتماعي يتحوّل إلى سيف ذو حدّين؛ فمن جهة، يعزز من قوة المجتمعات في الحفاظ على هياكلها الاجتماعية وتوجيه أعضائها وفقاً لقيم معينة، لكنه من جهة أخرى، يُمكن أن يقيّد حرية الفرد ويُسهم في تدمير حياته بسبب حوادث صغيرة قد تكون مجرد شائعة لا تستند إلى أية حقيقة. فهل التعاطف مع الضحية ضرورة بناء مجتمع واعٍ؟
أمام هذه الظاهرة، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا بناء مجتمع يتّسم بالعدالة والوعي الاجتماعي؟ الجواب يتطلب منا أولاً أن نُدرك أن الشائعة لا تُعني الحقيقة. ليس كل ما يُقال هو واقع بالضرورة، ولذا يجب أن نتحلّى بالعقلانية والقدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير ذلك. فالحكم على الأفراد بناءً على الشائعات لا يخدم سوى تفكيك الروابط الاجتماعية ونشر الفتنة.
الأمر الآخر الذي يجب أن نركّز عليه هو تطوير ثقافة التعاطف والاحترام المتبادل بين الأفراد. لا ينبغي للمجتمع أن يفرض على الفرد نموذجاً واحداً للصح والخطأ، بل يجب أن يتيح له الفرصة للحديث عن قضيته وتوضيح موقفه. ذلك أن إدانة الشخص بناءً على شائعة يمكن أن يُغلق أمامه كل أبواب الدفاع عن نفسه، مما يجعله ضحية ليس فقط للاتهام، ولكن أيضاً لغياب العدالة والشفافية.
الشائعات، وإن كانت جزءاً من سلوكيات اجتماعية قديمة، لا ينبغي أن تظل أداة لتدمير حياة الأفراد. علينا أن نُعيد بناء الثقة في التواصل بين الأفراد ونشجّع على التفكير النقدي. يجب أن نتعلّم كيف نفرّق بين ما هو صحيح وما هو مجرد حديث غير موثوق، وألا نسمح للآراء العامة أن تُلغي الحقائق البسيطة.
في النهاية، يعتمد بناء المجتمع الواعي على تعليم الأفراد كيفية التفكير بشكل مستقل والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف، وكيفية احترام كرامة الآخر حتى في غياب الأدلة الملموسة. إن التصدّي للشائعات يتطلّب منا جميعاً أن نكون حذرين في ترديد الأخبار، وأن نكون مدركين لسلطة الكلمة وتأثيراتها العميقة على حياة الآخرين.