اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
'أنا كرم عبد الرؤوف حسان، لاجئ من مدينة يافا المحتلة وأسكن في مدينة قلقيلية. تم اعتقالي عام 2003 بعد مطاردة دامت ثلاث سنوات، حاصروني أكثر من ست ساعات قبل أن يتمكنوا من اعتقالي… ومنذ تلك اللحظة تغيّرت حياتي بالكامل.'
بهذه الكلمات يبدأ كرم حديثه عن سنوات لم تكن عادية، لا قبل الاعتقال ولا بعده، رحلة مليئة بالمطاردة والسجن والعزل والألم، وأيضًا بالأمل. فقد كان في مطلع شبابه، بالكاد يبلغ من العمر 21 عامًا، حين بات مطلوبًا للاحتلال، يُطارَد ليلًا ونهارًا، متنقلًا من مكان إلى آخر، يعيش حالة من الخوف الدائم، لكن بعزيمة لا تلين.
يقول لصحيفة 'فلسطين': 'ما كنت خايف على نفسي، كنت خايف على اللي حواليا… أمي، وإخوتي، والناس اللي استضافوني، كنت حاسس بثقل كبير على كتافي'.
طاردته قوات الاحتلال ثلاث سنوات، وحاصرته مرات عدة، إلى أن تمكّنت من اعتقاله عام 2003 بعد ست ساعات من الحصار في أحد المنازل. اقتيد مكبّل اليدين لتبدأ رحلته داخل الزنازين الإسرائيلية.
'أصعب لحظة كانت أول ليلة بالسجن… ما كنت عارف شو راح يصير، ولا قديش راح أظل… بس كنت مؤمن إن الحق ما بيموت'، يقول كرم.
قضى كرم سنوات طويلة في الاعتقال، تنقّل خلالها بين سجون عدة، وتعرّض للعزل الانفرادي والتحقيق القاسي، وحُرم من رؤية أهله لفترات طويلة، لكنه لم يفقد بوصلته، فظل متمسكًا بفكرة الحرية وحقه في الحياة والكرامة.
ويضيف: 'السجن مدرسة، صحيح قاسية، لكنها بتعلمك الصبر، وبتعرفك على حالك أكتر… كنت أقرأ كثير، وأكتب، وأفكر في يافا اللي عمري ما شفتها، لكنها دايمًا في قلبي'.
أما عن تجربته داخل سجون الاحتلال، فيصفها كرم بمرارة: 'كان التعامل معنا إجراميًا، خاصة خلال الحرب على غزة، لا أخلاق فيه ولا إنسانية، ويتنافى مع كل ما تنادي به القوانين والمواثيق الدولية… لا دواء، ولا علاج، عدا عن التعذيب النفسي والجسدي الممنهج'.
ويؤكد كرم أن ما تعرّض له هو جزء بسيط مما يعيشه آلاف الأسرى خلف القضبان، قائلًا: 'نحن لسنا أرقامًا… نحن أصحاب قضية… وما يُمارس بحقنا هو انتهاك يومي لحقوق الإنسان أمام صمت دولي معيب'.
ويستكمل: 'داخل الزنزانة، لم تكن الجدران وحدها تقيدك، بل الأخبار التي تنهال عليك كالصواعق: استشهاد هذا، واغتيال ذاك… كل اسم كنت تسمعه كان يعني جزءًا من روحك يُنتزع'.
ويتابع بصوتٍ يملؤه الشوق: 'كنت أشتاق خلف الأسوار... إلى قبر أبي وأمي، إلى قبور الشهداء، إلى أن أقبل أقدام أمهات شهداء غزة'.
ورغم سنوات الأسر الطويلة، لم يكن السجن قيدًا لعقله، فقد أنهى درجة الماجستير في العلوم السياسية من داخل المعتقل، كما حصل على درجتي بكالوريوس، الأولى في العلوم السياسية والثانية في التاريخ من جامعة الأقصى بغزة. يقول كرم: 'كانت الدراسة بوابتي نحو التمسك بالحياة، ورسالة للمحتل أن السجين الفلسطيني لا يُهزم، بل ينهض بالعلم كما يناضل بالفعل'.
ويستذكر لحظة سماعه عن صفقة التحرير قائلًا: 'كان قلبي معلّقًا بين الرجاء والخوف… أترقب بقلق، وأخاف ألا يكون اسمي ضمن قوائم الحرية، لكن ثقتي بالمقاومة كانت كبيرة، عظيمة… أولئك الرجال لا ينسون أبناءهم خلف القضبان، جزاهم الله كل الخير'.
قضى كرم أكثر من 20 عامًا خلف القضبان، تنقّل خلالها بين عدة سجون، وكان آخرها قسم (18) في سجن نفحة الصحراوي، قبل أن يُحوّل لاحقًا إلى ما يُعرف الآن باسم سجن 'جنوت'. وكان محكومًا بمؤبدين وثلاثين عامًا إضافية.
ويقول: 'من خلف القضبان، لم تكن الحرية وحدها ما أحنّ إليه… كنت أشتاق أن أقف أمام قبر والدي ووالدتي، أن أقرأ لهما الفاتحة، أن أقول لهما: خرجت يا أبي… يا أمي، خرجت بعد عمرٍ من الانتظار'.
تحرر كرم بعد سنوات طويلة، لكن حريته لم تكتمل، إذ لم يُسمح له بالعودة إلى قلقيلية وأُبعد إلى مصر. ومع ذلك، ظل يشعر أن حريته ناقصة ما دام شعبه ما زال تحت الاحتلال.
'الحرية ما بتكمل إلا لما يتحرر الوطن… أنا طلعت من السجن، بس في إخوة إلي جواته، وفي شعبنا اللي محاصر وممنوع يعيش طبيعي'، يقول كرم.
ويستذكر لحظة مناداة اسمه بين المفرج عنهم: 'شعرت وكأني أولد من جديد، وكأن الظلام الذي خيّم على عمري بدأ يتبدد'.
ورغم أن حريته انتُزعت من بين قضبان الاحتلال، إلا أن الإبعاد عن أرضه وعائلته ترك جرحًا جديدًا: 'ما كنت أتمنى بعد كل هذا الصبر والحرمان أن أُحرم من احتضان أهلي في قلقيلية، ومن تراب بلدي… لكني مؤمن أن التضحية جزء من طريق الحرية'.
ورغم مرارة الإبعاد، يظل كرم ثابتًا على عهد الأسرى، قائلًا: 'الحرية ناقصة إن لم تشمل كل رفاقي، وإن لم أرجع إلى فلسطين التي أسكنها وتسكنني… وسأبقى أنتظر اليوم الذي أعود فيه مرفوع الرأس'.
'وإن كانت لي أمنية في حياتي، فهي أن أكون غزّيًا'، يقول كرم بقلبٍ يغمره الحب لأهل غزة الذين واجهوا الحرب والحصار والجوع بصمودٍ يليق بالكرامة.
ويتابع: 'رأيت في غزة عزيمة لا توصف… تمنيت لو كنت واحدًا من أبنائها، أشاركهم الصمود وأكون معهم في الميدان، فغزة ليست مجرد مدينة، هي روح فلسطين وكرامتها'.
ويختم كرم كلماته برسالة أمل: 'نحن نعيش على الأمل… أمل الحرية والعدالة، أمل العودة إلى يافا، أمل وطن بلا سجون ولا احتلال… وسيأتي اليوم الذي نُكمل فيه الطريق معًا، من قلقيلية إلى غزة، ومن يافا إلى القدس'.
'سيبقى الماضي محفورًا على أجساد الأسرى، ومنقوشًا في نفوسهم، فالحاضر مهما بلغ من البساطة والتواضع، لا يستطيع أن يُنكر ماضٍ أليم، مليء بالذكريات وقاسٍ في تفاصيله… حتى النفس تعجز أحيانًا عن محوه أو نسيانه'، وفق قوله.
'وكيف أنسى أمهات شهداء غزة؟! أولئك العظيمات اللواتي فقدن أبناءهن في سبيل حريتنا… والله إني كنت أقول لنفسي: إن خرجت، سأقبل أقدامهن واحدًا واحدًا، فبدماء أبنائهن فُك قيدنا'، هكذا أنهى كرم حديثه بصوت تختلط فيه مشاعر الألم بالامتنان.

























































