الكاتب:

د. جهاد بن جميل حمد

أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة السلطان قابوس

مقدمة - من السيكولوجيا إلى السوسيولوجيا

غالباً ما تختزل التحليلات السائدة الأفعال البشرية المُدوّية في سياقات الصراع، في مقاربات سيكولوجية تركّز على الحالة النفسية للفاعل أو دوافعه الفردية. ورغم أهمية هذه القراءات، إلا أنها تظل قاصرة عن إدراك الجذور البنيوية العميقة التي تنتج هذه الأفعال وتُشكّل الوعي الجمعي الذي يحضنها. فـ'الفعل اليائس'، في حقيقته السوسيولوجية، ليس شذوذاً نفسياً، بل هو تعبير دراماتيكي عن أزمة هيكلية، وانهيار في النسق الاجتماعي والسياسي الذي يحتضن الفاعلين. إنه الصرخة التي لا تنفجر من فراغ، بل هي المحصلة الحتمية لتراكم الإخفاقات على مستوى البنى الكبرى للمشروع الوطني الفلسطيني. يستلهم هذا التحليل الإطار النظري لكل من إميل دوركايم في مفهوم 'الأنوميا' وبيير بورديو في نظرية الممارسة والعنف الرمزي، وفرانز فانون في سيكولوجيا المُستَعمَر وضرورة التحرر عبر الفعل.

1. الإطار النظري - الأنوميا، العنف الرمزي، واليأس الجمعي

يقدم مفهوم 'الأنوميا' (Anomie) عند دوركايم (Durkheim, 1897) المفتاح الأول لفهم الحالة الفلسطينية. فهي الحالة الاجتماعية التي تتعطل فيها المعايير والضوابط، وتفشل فيها المؤسسات في تنظيم توقعات الأفراد وتوجيه طموحاتهم. الفلسطيني في قطاع غزة، لم يعد يعيش فقط تحت نير الاحتلال، بل يعيش في حالة وجودية غامضة: لا حرب يُعرف لها نهاية، ولا سلم يحمل عدالة، ولا دولة تمنح هوية. هذه 'اللاحرب واللاسلم واللادولة' دمرت القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وخلقت شعوراً جماعياً بأن البقاء بلا كرامة هو الفناء الحقيقي. هنا، يتحول 'الانتحار الأنومي' الفردي عند دوركايم إلى 'فعل جمعي يائس'، حيث يختار الوعي الجمعي، كما تجسد في قرار القيادة، التضحية بالجسد من أجل بقاء 'المعنى' واسترداد الذات، تماماً كما أشار فرانز فانون (Fanon, 1961) في تحليله لدور العنف في التحرر النفسي والوجودي للمُستَعمَر.

2. تشريح البنى الفاشلة - العوامل الداخلية

أ. تحول السلطة: من التحرر إلى إدارة الأزمة النيوباتريمونيالية

شكلت اتفاقيات أوسلو منعطفاًتراجيدياً، حيث تحولت منظمة التحرير من إطار تحرري شامل إلى 'سلطة حكم ذاتي' مقيدة. هذا التحول أنتج نظاماً 'نيوباتريمونيالياً' (Neuberger, 1999) تحولت فيه المؤسسات إلى ملكية للنخبة، حيث يُستخدم الفساد المؤسسي كآلة لضمان الولاء واستقرار النظام تحت الاحتلال. كما أدت عملية 'إدارة الأزمة' بدلاً من حلها إلى اغتراب كامل بين النخبة في رام الله والمعاناة اليومية للإنسان في غزة والضفة، مما ولّد أزمة شرعية عميقة جعلت المؤسسات الرسمية تُنظر كحاجز بين الشعب ومحتلّه، وليس ممثلاً له، وهي الحالة التي وصفها إدوار سعيد (Said, 1994) بدقة بأنها 'دولة بدون جغرافيا، وسلطة بدون سيادة'.

ب. الانقسام وتفكيك النسيج الاجتماعي والرأسمال الاجتماعي

لم يكن الانقسام مجرد انشقاق سياسي،بل كان عملية تفكيك منهجية للرأسمال الاجتماعي والهوية الوطنية الموحدة. لقد قدّم الانتماء الحزبي أو المناطقي ('الحمائلية الحديثة') نفسه على الانتماء الوطني، وأضعف التماسك الاجتماعي، وحوّل مؤسسات المجتمع المدني إلى ساحات صراع داخلية. أنتج هذا كيانيين منفصلين في الضفة وغزة، مما أفقد الفلسطينيين قدرتهم على بلورة إستراتيجية وطنية موحدة، وعمّق إحساسهم بالعجز، مُضعفاً بذلك 'القوة الفاعلة' (Agency) الجماعية التي تُعتبر حجر الزاوية في أي مشروع تحرري.

3. هندسة اليأس - العوامل الخارجية والهيكل الاستعماري

أ. الاستراتيجية الإسرائيلية - إدارة الصراع لا حله

تعمل الآلة الاستعمارية الاستيطانية على مبدأ'إدارة الصراع لا حله'، حيث يُحوّل إلى أزمة مزمنة يمكن احتواؤها إلى أجل غير مسمى، كما يحلل إيان لوستك (Lustick, 1993). الهدف ليس الحل، بل خلق وقائع استعمارية لا يمكن عكسها على الأرض، عبر الاستيطان وعزل القدس، مما يجعل قيام دولة قابلة للحياة مستحيلاً. تعمل إسرائيل على افتراض أن الزمن يعمل لصالحها، مجبرة الفلسطينيين على القبول بحلول أقل من طموحاتهم، في عملية مستمرة من 'العنف الرمزي' (بورديو، 1977) الذي يهدف إلى إخضاع الوعي نفسه.

ب. العوامل الخارجية - تمكين الاستعمار

لعب الدعم الأمريكي غير المشروط،والاستغلال الإقليمي للقضية في صراعات جانبية، وعجز المجتمع الدولي الانتقائي، دوراً حاسماً في تقويض أي إمكانية لنجاح المشروع الوطني. أصبح الفلسطيني يشعر أن النظام العالمي غير عادل، وأن العدالة الدولية هي فقط للأقوياء، مما عزز الشعور باليأس والعزلة.

الخاتمة

من الفعل اليائس إلى الفعل الواعي – نحو إعادة البناء

في هذا السياق البنيوي المأزوم، يصبح 'الفعل اليائس' الذي تجسد في السابع من أكتوبر مفهوماً سوسيولوجياً وليس مجرد حدث عسكري. إنه ليس انتحاراً عاطفياً، بل هو ما يمكن وصفه بـ'الفعل الاستراتيجي المحسوب'، وهو فعل رمزي عنيف، كما يصفه بيير بورديو (Bourdieu, 1991)، يعيد ترتيب المعاني والتصورات قبل إعادة ترتيب الجغرافيا. لقد كان صرخة وجود هدفها كسر حاجز الصمت العالمي وإجبار الآلة الاستعمارية على كشف وجهها الحقيقي، مما أدى إلى زعزعة شرعيتها الأخلاقية على الساحة العالمية، وهي هزيمة تسبق في خطورتها الهزيمة العسكرية.

الخلاصة التي يقدمها التشريح السوسيولوجي ليست تبريراً للفعل، بل تشخيصاً دقيقاً لجذور الأزمة. الطريق إلى الأمام لا يمر عبر تبني 'الفعل اليائس' كاستراتيجية دائمة، بل عبر معالجة الخلل البنيوي الذي ينتجه. هذا يتطلب إعادة توحيد الحقل السياسي الفلسطيني على أسس شرعية جديدة، واستعادة فضاء المجتمع المدني المستقل، وتطوير إستراتيجيات مقاومة مبتكرة تشمل القانون الدولي والدبلوماسية والثقافة والاقتصاد، وإعادة ربط المشروع التحرري بقيم العدالة العالمية. الفعل اليائس قد يفضح الأزمة، لكن إعادة البناء من الأنقاض تحتاج إلى فعل واعٍ واستراتيجي، يحرر الإرادة الوطنية من كل أشكال التبعية، ويبدأ بإعادة بناء المجتمع نفسه ومؤسساته، مستعيداً 'الرأسمال الاجتماعي' الذي افتقده.

.