اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ أيار ٢٠٢٥
في ممرات مستشفى التحرير داخل مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، حيث يعلو أنين المرضى، وقفت الطبيبة آلاء النجار، بثوبها الأبيض، لا تحمل أدوات الفحص هذه المرة، بل وجعاً أثقل من كل تشخيص، فقد استقبلت جثامين أطفالها التسعة، شهداء، واحدًا تلو الآخر، على نقالة الموت، في المكان ذاته الذي نذرت حياتها له.
آلاء، طبيبة أطفال لم تكن يومًا بعيدة عن وجع الطفولة في غزة، وكانت تعرف مرضاها بالاسم، تواسي أمهاتهم، وتدندن بكلمات أمل على أسماعهم الصغيرة، لكنها في هذا اليوم، لم تكن طبيبة، بل أمًّا مكسورة، تلقت خبر استشهاد أطفالها الثمانية حرقاً، والتاسع لاحقاً، بعد قصف إسرائيلي استهدف منزلها في منطقة قيزان النجار جنوب مدينة خان يونس.
كان المنزل، كما قالت فرق الدفاع المدني، قد اندثر تمامًا تحت القصف أول من أمس، نيران الغارة الإسرائيلية التهمت كل شيء حتى الأحلام الصغيرة التي علقتها آلاء على جدران البيت، وحتى لعب الأطفال التي كانت تملأ الأركان.
خرجت آلاء صباحاً إلى نوبتها في المستشفى، برفقة زوجها الدكتور حمدي النجار، ولم تكن تعلم أن هذا الخروج سيكون الوداع الأخير، فبعد دقائق فقط من مغادرتهما، سقط صاروخ على البيت، لتنتهي حياة تسعة من أطفالها العشرة، وأصيب زوجها بجراح بالغة، وابنها الوحيد الناجي يرقد الآن بين الحياة والموت.
رأى زملاؤها في المستشفى آلاء تمشي على قدميها، لكنها كانت تسير على حافة الانهيار، لم تصرخ، لم تبكِ، بل وقفت صامتة، مستغفرة، تهمس: 'الحمد لله... لا حول ولا قوة إلا بالله'.
امرأة شامخة، كما وصفها أحد الزملاء، تتجسد فيها الآية: 'فصبر جميل'، وهي لم تكن بحاجة لنعش لتودع أبناءها، فهم جاؤوا إليها، إلى عملها، إلى المكان الذي داوت فيه جراح أطفال الآخرين… وها هم أطفالها يُسجّلون بين ضحايا العدوان.
داخل المستشفى، كانت تنتظر خبراً عن ابنها الناجي الوحيد، تراقب جدران قسم العمليات بعيون الأمل، فيما يتقاطر الناس لمواساتها. لكنها لم تكن تبكي، بل كانت تمسك بسبحتها، تذكر الله، وتصبر، وتحتسب، وبدا وجهها مشرقاً بالصبر، لا مأساة في العالم يمكن أن تسرق منها يقينها.
آلاء، التي دفعت أثماناً مضاعفة لحرب الإبادة الجماعية، لا تحمل فقط لقب 'طبيبة'، إنها صورة غزة في أكثر لحظاتها إنسانية، عنوان للصبر حين يتكسّر، وللقوة حين تنهار الحياة.
جثث متفحمة
الدكتور علي النجار، شقيق الطبيب حمدي النجار، أوضح أن المجزرة التي ارتكبت بحق أبناء أخيه وزوجته الطبيبة آلاء النجار كانت مأساة لا توصف، مؤكدًا أن الأطفال قتلوا حرقًا داخل منزلهم في منطقة قيزان النجار جنوبي خان يونس، إثر قصف إسرائيلي استهدف المنزل دون أي مبرر.
وبين الدكتور علي في حديثه لصحيفة 'فلسطين' أن أخاه، الطبيب حمدي، كان قد أوصل زوجته إلى عملها في مستشفى ناصر، وعاد إلى المنزل مع أطفاله، قبل أن يتلقوا اتصالًا يفيد بتعرض المنزل للقصف.
وأضاف: 'ذهبت فورًا إلى المكان، وهناك وجدت أخي ملقى على الأرض مصابًا بجروح بالغة، فيما كان أطفاله متفحمين داخل المنزل'.
وأكد أن المشهد كان مروعًا إلى درجة أن الطبيبة آلاء، وهي اختصاصية أطفال، لم تستطع التعرف على جثامين أبنائها من شدة الحروق التي أحدثتها الصواريخ الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن الأطفال بدوا وكأنهم قد أُحرقوا بالكامل.
وشدد الدكتور علي على أن الجريمة لا يمكن تبريرها، قائلاً: 'قتلوا أخي وأطفاله، رغم أنه وزوجته طبيبان. لا نعلم لماذا ارتكبت هذه الجريمة الوحشية بحق عائلة لا علاقة لها بأي شيء سوى تقديم العلاج للمرضى'.
وأشار إلى أن الحالة الصحية لأخيه الطبيب حمدي خطيرة جدًا، وكذلك الطفل الناجي الوحيد، مؤكدًا أن كلاهما يرقد حاليًا في العناية المركزة، وسط جهود طبية مكثفة لمحاولة إنقاذ حياتهما.
الخوف والجوع
وكيل وزارة الصحة في غزة، الدكتور يوسف أبو الريش، أوضح أنه علم بأن زميلتهم الطبيبة آلاء النجار كانت تقف أمام قسم العمليات في مستشفى ناصر، تنتظر بقلق بالغ أي خبر يطمئنها عن ابنها الوحيد الناجي، بعد أن فقدت تسعة من أطفالها في قصف إسرائيلي غادر استهدف منزلها.
وأوضح الدكتور أبو الريش أن المنزل، الذي كان يحتضن أحلامًا متواضعة رغم الألم والخوف والجوع، تحول إلى رماد، مضيفًا أن الطبيبة آلاء خرجت لأداء واجبها المهني والإنساني، تاركة أبناءها في ظل ظروف قاسية تعيشها كل عائلة في غزة.
وقال إن الطبيبة النجار تمثل نموذجًا فريدًا لطبيبة لم تثنها المآسي الشخصية عن أداء رسالتها تجاه مئات الأطفال المرضى الذين لا يجدون مأوى سوى مستشفى ناصر، حيث تختلط أصوات بكائهم مع أنين المرض والجوع.
وأكد أنه توجه فورًا إلى قسم العمليات حين بلغه الخبر، وهناك وجد جمعًا من الرجال والنساء ينتظرون بفزع ما ستؤول إليه حالة الطفل المصاب.
وبين أنه استطاع تمييز ملامح الألم والقهر على وجه الطبيبة النجار، رغم ثباتها الظاهر، لافتًا إلى أن الكلمات خذلته أمام هيبتها وصبرها.
وأشار إلى أن المفاجأة كانت حين أشير له إلى طبيبة شامخة، تقف بهدوء يملأه الرضا والتسليم، لا تسمع منها سوى تسبيح واستغفار، في مشهد قل نظيره.
وقال: 'لم أكن أتصور أن تكون هذه المرأة الجبارة هي نفسها الطبيبة آلاء النجار. لقد وقفت أمامها محاولاً مواساتها بكلمات شعرت أمامها بأنها لا تليق بعظمة ثباتها ويقينها'.
وأضاف الدكتور أبو الريش أن ما رآه في موقف الطبيبة النجار جسد لأول مرة معنى الصبر الجميل كما وصفه القرآن، مؤكدًا أن مثل هذه النماذج النادرة هي منارات حقيقية للإنسانية، وتستحق أن تروى للأجيال.
وتابع: 'عدت من قسم العمليات وأنا مثقل بالأسئلة التي لا أجد لها إجابة من هذه المرأة؟ كيف يمكن لإنسان أن يصمد بهذا الشكل؟ كيف لنا أن نفي هذه الأرواح الشامخة حقها؟'.