اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٣١ أذار ٢٠٢٥
'عدنا ورحل الأسد' وضعت بتقنيّة الإسقاط الضوئي على خلفية مسرح الصالون الأخضر من مسرح الشعب 'Volksbühne' في العاصمة الألمانية برلين بانتظار المغنية والموسيقية السورية بسمة جبر في ذكرى الثورة السورية.
كلّ شيء كان معدًا بطريقة مثاليّة وحذرة. بدأ الحفل بدقيقة صمت حدادًا على أرواح شهداء الثورة السورية، ثم بقراءة أسماء بعض شهداء الثورة، ثم بأسماء بعض المخفيين قسرًا، مع قائمتين في مقدمة المسرح ضمت إحداهما أسماء المخفيين قسرًا، وأخرى لأسماء الشهداء كانتا جزءًا من المسرح، أو ربّما من الفرقة الموسيقيّة، لا كديكور في خلفية الحفل، ثم إلى تقرير مصور طويل عن تاريخ الثورة السورية وأهم محطاتها ورموزها.. كل هذا والموسيقا لم تبدأ بعد.
'من برلين هنا سوريا' كان عنوان حفل بسمة جبر والموسيقيين: مهند نصر (عود)، أيمن هلال (كمان)، سلام الحسن (إيقاع)، ووسام كريمة (بيانو). فكرة وإخراج علا الخطيب. وذهب ريع الحفل إلى فريق 'عقّمها' لتقديم 'الرعاية الصحية والمجتمعية للمعتقلين السابقين في سجون النظام البائد'.
على هامش الحفل الذي ضم أغنيات خاصّة ببسمة جبر، والكثير من أغاني الثورة السورية، وأغنيات أقرب لأن تكون رسائل منها إلى السوريين، من 'يا حيف'، و'يما مويل الهوى' و'بكتب اسمك يا بلادي' و'شباكك مطفي'، إلى 'اليرموك اشتقلك يا خيا' و 'جنة جنة'، بين ما هو عام وما هو خاص، من الساحل إلى دمشق، درعا والسويداء والجزيرة، التقينا بسمة جبر وكان معها الحوار التالي:
بسمة جبر مغنية، موسيقية، تحاول الخروج عن المألوف لكي توجد نمطًا يشبهها، لا قوالب فنية جاهزة لدى بسمة، الفن بالنسبة لها مثل الحياة: حالة متغيرة فيها مفاجآت ومحطات كثيرة تغير أفكارنا وآراءنا بطرق كثيرة.
تعيشين في فيينا، وكنت في سوريا منذ أيام، لماذا 'من برلين هنا سوريا' لم تكن من سوريا؟
عدت إلى سوريا لكي أستعيد قلبي، لكي أتوازن، ولكي أشعر بحرية العودة إلى الوطن، لكي أشعر بانتمائي، وبجذوري من جديد. طبعًا كان جميلاً لو غنّيت، ولكنهم كانوا ستة أيام فقط. كنت مهتمة بأن أتنفس من جديد وأشحن ذاكرتي ومشاعري وسوريتي. حفل برلين كان مقررًا مسبقًا بهذا التاريخ لإحياء ذكرى الثورة، وكنت مهتمة أن نجتمع كسوريين جميعًا من برلين ومحيطها، خاصة أن جالية سورية كبيرة تعيش هناك، لكي نكون قريبين من بعضنا البعض في ذلك اليوم، لكي نغني معًا، لكي نتقاسم جمال وثقل ما يجري في سوريا. جمال ولادتنا من جديد، وثقل الأخبار الواردة من الساحل. بالتأكيد لو كنت في سوريا في ذلك اليوم لأقمت حفلاً هناك.
على العكس، موقفي معروف وواضح منذ البداية، أنا لا أكتب على مواقع التواصل الاجتماعي إلا ما هو متعلق بعملي. أعتبر هذه المواقع منبرًا فنيًّا لكي أتحدث عن أعمالي وأدعو الناس للتعرف إليها. موقفي الإنساني واضح جدًا، وكذلك موقفي السياسي منذ بداية الثورة، ولكنني مثل كثير من الأشخاص الذين لديهم عائلات في سوريا، كنت مهدّدة إن أعلنت موقفي، لربما لن أستطيع رؤية أهلي في حياتي. ناهيك عن وجود 23 مليون سياسي في سوريا.
أقدم الموسيقا العربية بشكلها الكلاسيكي، وكذلك بشكل معاصر نتيجة عدة أسباب؛ أولها تواجدي في النمسا، كذلك نتيجة دراستي لموسيقا الشعوب، قسم الغناء في جامعة فيينا للموسيقا والفنون المسرحية. بالإضافة إلى عملي وتعاوني مع موسيقيين من خلفيات موسيقية مختلفة وغنية. هذا التعاون وسّع اتجاه تفكيري في الموسيقا وساعدني لأرى موسيقانا بشكل آخر، وأقدمها من منظور جديد ومختلف ويشبهني.
أي مشروع موسيقي أعمل عليه، يهمني كيف يكون صداه على المستمع الغربي بالتأكيد، فالوطن يعيش بذاكرتنا المدركة وغير المدركة. حين أبدأ بأي مشروع أنطلق من ذاكرتي وشعوري وحاجاتي ويومياتي، فهو مرتبط بسوريتي. في 'أغانٍ مازلنا نتذكرها' عملت مع الموسيقي وعازف العود عروة صالح على مشروع ثنائي لتقديم ذاكرتنا كما نتذكرها اليوم، حيث قمنا بعجن مقاطع موسيقية ومقاطع من الكلام بالشكل الذي نتذكره اليوم.
مخاوفي أن يكون الفن مقيدًا في سوريا، الحركة الفنية والثقافية تشوهت في السنوات الماضية، ونحن اليوم، لأن الفن هو مرآة المجتمع، بأمس الحاجة لنعيد إعمار المشهد الموسيقي والفني في سوريا
أما 'فرات' فقد كان بالتعاون مع المؤلف الموسيقي وعازف العود مهند نصر، وهو مشروع عملت عليه لسنوات، قدمت فيه أغنيات لمغنيات عربيّات عشنَ في القرن الماضي، وكان لهنّ دور كبير في الموسيقا العربيّة. كل واحدة منهنّ لديها قصة. رويتُ قصصهنّ، فكان الألبوم يحكي قصصًا وأغانٍ، وتم نشر القصص على انستغرام من إخراج علا الخطيب، وهي ذاتها مخرجة حفل برلين. شعرت أنه من واجبي تسليط الضوء على دور المرأة في الموسيقا العربية. كتبت في الألبوم قطعة موسيقيّة اسمها فرات، وهي قصّتي، التي تشبه جريان النهر، من أين أتيت، وأين أنا... في مقطوعة 'فرات' ثمة ارتجال للشاعر ناصر البدري: 'نَسيتُ ترى نَسيتُ وما نَسيتُ بل نُسيتُ أغطّ جذري في الفرات أغطّ غصني في الفرات'.
الموسيقا لغة تتجاوز الحدود، وتتخطى فكرة تصنيفها وقولبتها وأن تكون موجهة فقط لجمهور معين. فيينا مكان غني بثقافات مختلفة. تشعر فيه أحيانًا أنه لم تعد هناك موسيقا صرفة تخص مجموعة معينة. هي مكان واسع لاختلاط أشخاص من أعراق وخلفيات وأنماط موسيقية مختلفة. في بقعة جغرافية صغيرة تسمع موسيقا متنوعة من كل أنحاء العالم. حالة التبادل والمشاريع المشتركة هذه تدمج مفردات موسيقية كثيرة، وبالتالي، حتى الموسيقا العربية تأثرت بهذا الوضع، وصارت مستساغة أكثر بالنسبة للمستمع الغربي، ودخلت إليها عناصر موسيقية من أنواع موسيقية أخرى.
مثل كثير من السوريين، هناك فترة من حياتنا كانت فترة نجاة، لم تكن فترة طبيعية أو عادية أو فترة بحث عن حلم أو شغف. مرحلة الخروج من سوريا رغم كل الأذى والكارثة الإنسانية التي كانت موجودة، إلا أن عملية الخروج بذاتها كانت صدمة لي ولكثير من السوريين. تعرضنا في هذه الفترة إلى رضّ نفسي وأخلاقي وإنساني. كان من المهم أن نتعافى وندرك مقدار الخسارة التي تعرضنا لها على كافة الصعد. والفن لا يتجزأ عن الحياة. معظمنا مر بهذه الفترة، شعرنا أننا لم نعد على قيد الحياة واحتجنا فترة لندرك وجودنا، ولنقاتل ونثبت لأنفسنا أننا قادرون على البناء والعودة إلى الحياة من جديد. أما النجاة، فبالتأكيد رفيق دربي كان الداعم الأول والأخير في الغربة، ولا شكّ أن الموسيقا انتشلتني. في البداية كان مخططي أن أعمل كمهندسة، ثم سألت نفسي ماذا أريد حقيقةً. بعد كلّ هذه الفترة من التغيّرات والإدراك والصراع الشخصي. واكتشفت أني أريد أن أكون موسيقية ومغنية فقط. وكانت الموسيقا بمثابة يد خفيّة أخذتني إلى النجاة.
بالطبع، جزء مني هنا وآخر هناك، سوريا هي الوطن، والأم، والمكان الذي له فينا ولنا فيه حصة كبيرة أينما ذهبنا. وصحيح أن النمسا مكان لم أختره بإرادتي، ولكنه هو المكان الذي استطعت أن أتعافى فيه، ورممت نفسي وعدت لبناء حلمي من جديد، وغيرت طريقة تفكيري على عدة أصعدة. النمسا هي بيتي الجديد.
أعتقد أنه ينعكس على مكان أعمالي الموسيقية. لسنوات طويلة كان الغناء في سوريا حلمًا بالنسبة لي. كنا محرومين من الغناء والكلام. هذا الشعور صعب وقاس أن أفكر أن صوتي فتح لي مسارح العالم من أمريكا إلى كندا وكل أوروبا، ولكنني للأسف لم أغنّ في سوريا منذ 2008. هذا الحلم كان يكبر يومًا بعد يوم.. أعتقد أننا سوف نستطيع تقديم الوطن بطريقة ثانية، والحب كذلك، صرت أراه بعين جديدة. ثمة أمل كبير وحرية وولادة جديدة بالنسبة لنا.
مخاوفي أن يكون الفن مقيدًا في سوريا، الحركة الفنية والثقافية تشوهت في السنوات الماضية، ونحن اليوم، لأن الفن هو مرآة المجتمع، بأمس الحاجة لنعيد إعمار المشهد الموسيقي والفني في سوريا. أخشى من تقييد الحالة الفنية والثقافية في سوريا وتوجيهها كما كنا نرى في السنوات الماضية سواء للحالة الفنية أو لمن يمثل الفن والموسيقا. لدي أمل كبير، ولكنني أخشى ألا تأخذ الموسيقا حقها الكامل وتصبح حالة استهلاكية.
يجب أن أغني في سوريا، وأحب أن أغني في سوريا، هذا واجبي وحلمي الذي أريد تحقيقه.
شاركت منذ أيام في مشروع حفل اسمه 'أصوات نسائية متحدة' جمع مغنيات من خلفيات مختلفة من سوريا، إيران، كردستان، تركيا وأفغانستان. اجتمعنا كنساء من مناطق صراعات لنعبر بموسيقانا. في الشهر القادم، لدي مسرحية غنائية بعنوان 'رومابارون' في فيينا، تتحدث عن الغجر والانتماء وكسر الصورة النمطية لكيف تم الحديث عن هذا الموضوع وكيف قدمه يوهان شتراوس، أيضا سأكون في حفل مع موسيقيي الآغا خان في سويسرا، ومسرحية غنائية في عمان بعنوان 'ذكريات قصر الحمراء' وهو اندماج ثقافي بين التقاليد العربية والأندلسية، بين الموسيقا العربية وموسيقا الفلامنكو بتوزيع أوركسترالي. سأكون أيضًا في جولة لألبوم فرات في ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا، وسأكون في حفلات مع أوركسترا أورنينا في فرنسا وألمانيا، وسأسجل ألبومي الجديد 'لومي' وهو بالتعاون مع الموسيقي الرائع ماهان مير عرب. في 'لومي' سأتحدث عن نفسي. أغان قمت بكتابتها وتأليفها بنفسي، وقطع أخرى بالتعاون مع موسيقيين وكتاب أغانٍ. يمكننا أن نتحدث عنه في لقاء آخر.