اخبار سوريا
موقع كل يوم -سناك سوري
نشر بتاريخ: ٢٤ أيار ٢٠٢٥
قبل أن تفتح إسطنبول أول مقهى لها، وقبل أن تعرف لندن طعم القهوة، كانت دمشق تتنفس رائحة البن من أبواب حاراتها القديمة، هناك، في محلة السويقة، يذكر المؤرخ الدمشقي محمد الغزي أن شيخاً يُدعى 'محمد اليتيم' افتتح 'بيتاً للقهوة' قبل عام 1568م، ومن المرجح أن يكون أول مقهى عرفه العالم، قبل افتتاح المقاهي باسطبنول بنحو 50 سنة، وقبل وصولها لأوروبا في القرن الـ17.
ومع ذلك تتداول بعض الوثائق التاريخية أن أول مقهى عرفته دمشق كان عام 1530، واسمه 'قهوة خانة'، أي أن دمشق ماتزال تحتفظ بأول مقهى عرفه العالم ربما.
الرحالة الذين زاروا دمشق لم يغفلوا عن مقاهيها التي لفتتهم، كحال الرحالة الفرنسي 'جان تيفينو' الذي زار العاصمة السورية عام 1664، وقال إن كل مقاهي دمشق 'جميلة وتفيض بالماء'، لكن ما أسر قلبه كان مقهى السنانية الذي وصفه بـ'القهوة الكبرى' لجمال بحراته ونوافيره، ومقهى آخر قرب باب السرايا تتدلّى على جانبيه الأشجار وينساب على أطرافه جدول ماء، حيث يجلس الرواد تحت الظلال، يحتسون قهوتهم ويتبادلون الهمسات.
بحسب الوثائق التاريخية، شكّلت المقاهي في دمشق جزءاً أصيلاً من التخطيط الحضري والوقف الخيري، ففي عام 1572، أنشأ الوالي درويش باشا 'بيتاً للقهوة' ضمن سوقه الكبير قرب الجامع الأموي، ثم أضاف الوالي أحمد شمسي باشا في 1574 مكاناً مخصصاً لتحضير القهوة ضمن وقفه التجاري.
وفي عام 1596، خصص والي دمشق سنان باشا ثلاث مقاه كأوقاف دينية، إحداها لا يزال قائما في سوق العمارة، والثاني في سوق السنانية، والثالث عند خان عيون التجار، الذي كان عقدة طرق القوافل المتجهة نحو القدس ومصر.
قد يعتقد البعض أن إسطنبول هي مهد المقاهي في العالم الإسلامي، لكن الحقيقة مختلفة، ففي عام 1554، افتتح رجلان من بلاد الشام أحدهما من حلب والآخر من دمشق أول مقهى في إسطنبول، وذلك بعد أن كانت دمشق سبقتهم بعقود، ولم تدخل القهوة إلى أوروبا إلا في منتصف القرن السابع عشر، مع افتتاح أول مقهى في لندن عام 1652.
أي أن دمشق، كانت أول من صنع للقهوة مكاناً مخصصاً، بطابع عمراني واجتماعي وروحي، لكن الطريق إلى فنجان قهوة في مقاهي دمشق الأولى لم يكن معبداً بالحلم والرائحة، ففي عام 1546، حرّم قاضي القضاة 'محمد الحسيني' شرب القهوة، وتم حظرها في دمشق استجابة لذلك، لكن العثمانيين سرعان ما عادوا وسمحوا بها، لتنتشر المقاهي بسرعة فائقة.
يصف الرحالة لامارتين، الذي زار دمشق عام 1833، كيف كانت المقاهي تمتد على ضفاف الأنهار التي تخترق المدينة، وكيف تحوّلت إلى مساحات لقاء وحوار وأحيانا تخطيط للتمرّد: «المقاهي كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل الاجتماعي، خارج المسجد»، مشيراً أنها كانت تحتضن الثورات الصغيرة التي تنضج بهدوء وتنفجر فجأة في وجه السلاطين والولاة.
اليوم وبعد الكثير من الأعوام ورغم كل ما حلّ بالبلاد، ماتزال مقاهي دمشق مقصد الكثير من أبناء المدينة، وأولى أبواب استقبال الأصدقاء المغتربين الذين وجدوا طريق العودة بعد سقوط النظام، وعاد مقهى النوفرة ليستقبل الجميع، من يتحدث بالسياسة دون خوف، ومن يشكو الفقر دون قيود، ومن يخطط لمسقبل يراه جميلاً برغم كل الظروف.