اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٢٥ حزيران ٢٠٢٥
تزايدت التساؤلات حول هشاشة الوضع الأمني، وازدواجية التعامل مع الضحايا، وعمق الشرخ المتفاقم بين الأقليات والسلطة التي تزعم تمثيل الجميع، ما يُنذر بانهيار ما تبقّى من الثقة في مشروع الدولة السورية الجديدة.
أخيراً وقع في سوريا ما كنّا نخشاه ونستبعده: تفجير في كنيسة في حيّ قرب دمشق الشام، أدّى إلى مقتل أكثر من عشرين مؤمناً وإصابة عشرات آخرين. لا شيء يوجِع النفس أكثر من خسارة عزيز، وقد تركت ضخامة الخسائر ألماً عميقاً في الأرواح لمعظم السوريين، سيمكث طويلاً في الوجدان السوري، على أن المؤلم أيضاً هو الجرح الذي انفتح في الروح السورية.
كنا في سوريا نعتقد أننا محصّنون من الوصول إلى هذا الدرك، ونحسب أن هذه الحوادث تقع في العراق ومصر وباكستان، ولكن ليس في سوريا، وبالتأكيد ليس في دمشق الشام. وكأن ما حدث لا يكفي كمأساة، جاء ردّ فعل الحكومة السورية ليذكّرنا بأن ليس في سوريا من يواسي جروح المصاب، ويحسن عزاء العوائل المنكوبة، ويقيم العدل، ويحقّ الحقّ.
في البداية جاء بيان الحكومة السورية لـ 'يُدين بأشدّ العبارات الهجوم الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حيّ الدويلعة في دمشق،' وكأن حيّ الدويلعة يقع في اليونان، أو لكأن دمشق عاصمة اليمن. الحكومة لا تدين، بل تعلن عن المأساة وتصنّفها وتعد بتحقيق العدالة وتتعهّد بمنع تكرارها، باعتبارها المسؤولة عن أمن مواطنيها. هكذا فعلت أنغيلا ميركل في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي استهدف سوق عيد الميلاد في ساحة برايتشايدبلاتس في برلين في 2016، عندما عبّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في خطاب متلفز عن صدمتها العميقة وحزنها البالغ، وشدّدت على تمسّك الألمان بسيادة القانون والحياة الحرّة والمفتوحة.
وبعد ساعات، أعلنت الحكومة السورية أنها كشفت الشبكة المسؤولة عن التفجير، ونسبتها إلى 'تنظيم الدولة الإسلامية' الإرهابي. غير أن تنظيماً مجهولاً يُدعى 'سرايا أنصار السنّة' تبنّى العمليّة وكشف هوّية المنفّذ الانتحاري، مؤكّداً أنه لا ينتمي إلى 'داعش'، بل إلى جماعة متشدّدة منشقّة عن 'هيئة تحرير الشام،' متخصّصة في استهداف الأقليات. التنظيم نفسه أعلن في مارس/ آذار الماضي مسؤوليّته عن مجازر في ريف الساحل. ورغم خطورة هذا المسار، لم تُصدر السلطات أي معلومات مسبقة عن هذا التنظيم أو تحرّكاته، ما يثير تساؤلات واسعة في الشارع السوري حول الغموض الذي يكتنف وجوده، وأسباب التكتّم الرسمي على ملابسات التفجير ونتائج التحقيق حتى اللحظة.
التفجير وردّ الفعل الرسمي عليه، إضافة إلى الخطر المتزايد لعودة الإرهاب الطائفي، تكشف عمق الانقسام بين السوريين. أما الشعور الذي اجتاح الكثيرين، وخصوصاً من المسيحيين السوريين، فكان مزيجاً من الذعر وفقدان الثقة بالحكومة والمجتمع والمستقبل.
خلّف التفجير صدمة عميقة في أوساط المسيحيين السوريين، ليس فقط بفعل دمويته وموقعه داخل مكان عبادة، بل أيضاً لما اعتُبر تقصيراً بالغاً من السلطة الجديدة في توفير الحماية، وردّاً رسمياً باهتاً لا يرقى إلى جسامة المأساة. وعلى الرغم من إعلان الحكومة إلقاء القبض على خليّة مرتبطة بالحادث، ساد الغضب والشكّ أوساط السكّان، الذين رأوا في تجاهل مطالبهم، ومنها الامتناع عن وصف الضحايا بـ'الشهداء'، دليلاً على تمييز ديني متجذّر.
لكنّ هذا كلّه ليس وليد اللحظة.
من الورد إلى الديناميت
خلال العقد ونصف العقد الماضي، انحدرت سوريا إلى هاوية عنف وكراهية لا سابق لها في تاريخها الحديث. تحوّل خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وبخاصّة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقوداً لإشعال جولات جديدة من العنف وإراقة الدماء، ممزقاً النسيج الاجتماعي ومقوّضاً آمال التعايش الوطني.
البعض يستخدم هذه الخطابات وسيلة للهو، غير مدركِ – أو غير آبه ربما – لما يمكن أن تؤدّي إليه موجات إثر موجات من تبادل الكراهية والدعوة للعنف. والأدهى أن ذلك كله لم يعد تعبيراً رمزياً عن انقسام المجتمع عمودياً إلى سلسلة غير متناهية من الطوائف والمذاهب والقبائل والمناطق، بل تحوّل إلى أدوات فعّالة لتفتيت المجتمع بشكل حقيقي، ووضعه على حافّة انفجار أهلي جديد، وبات يُستخدم في حرب نفسية ضدّ جماعات بكاملها، لتجريدها من إنسانيتها وتبرير استهدافها. وتفاقمت هذه الظاهرة، في غياب أطر قانونية رادعة ورقابة على الفاعلين غير الحكوميين، معيقة جهود التعافي الوطني ومهدّدة ما تبقّى من تماسك اجتماعي.
لا مراء في أن نظام بشار الأسد هو من يتحمل المسؤولية الأساسية عن هذا الانحدار، بسبب الجرائم المروّعة ضدّ الإنسانية التي ارتكبها، بما في ذلك الإعدام خارج إطار القانون، والتطهير العرقي والتعذيب والتجويع والحصار بحقّ جميع السوريين وتدمير المساكن والمستشفيات والمدارس والمخابز والمعابد. ومع انهيار النظام وهروب زعيمه، برزت مخاوف جدّية من موجة انتقامية طائفية دموية، كان يمكن أن تُغرق البلاد في متاهة لا خروج منها. على أن هذا السيناريو المتشائم لم يتحقّق بالكامل إلا أن العنف استمرّ، ولا يزال يحصد ضحايا من المدنيين الأبرياء بدلاً من مجرمي النظام الكبار، الذين – ويا للسخرية – يتمتّعون بحماية النظام الجديد – بعضهم على الأقلّ.
ثمّة جيل كامل من السوريين، الذين ولدوا ونشأوا إما قبيل الثورة أو خلالها، لم يعرف سوى مشاهد القتل والكراهية والانقسام. حتى أن بعضهم صار يعتقد أن هذه هي الحالة الطبيعية، بل ربما الأفضل. تتحدّى مقالتي هذه تلك الفكرة، مذكرةً القراء بأن الثورة السورية بدأت كانتفاضة سلمية، قبل أن يحوّلها تجّار السياسة الجغرافية والدم إلى حرب أهلية مدمّرة. هنا، أتتبّع لحظة الانهيار: متى وكيف تحوّل الأمل إلى يأس؟