اخبار سوريا
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
تحالفت مع أجهزة بشار للسيطرة على المجتمع الإسلامي وبدأ عقدها ينفرط منذ اندلاع الثورة ورحيل مؤسستها عام 2022
في ستينيات القرن الماضي نشأت في دمشق جماعة دعوية نسائية سرّية على يد منيرة قبيسي (1933 – 2022)، وعرفت تلك الحركة سريعاً باسم 'القبيسيات' أو 'الحركة القبيسية'، والمؤسسة نفسها تلقت تعليمها الديني على يد المفتي السابق لسوريا الشيخ الصوفي أحمد كفتارو (1912-2004) الذي كان يحظى بمكانة علمية ودينية واجتماعية في الشارعين السوري والعربي- الإسلامي على حد سواء.
قبيسي آمنت منذ بداية تعليمها بأن ذلك العلم لا يجب أن يقف عندها في لحظات سورية مفصلية كانت تختلط خلالها أحوال الأمة بين تيارات قومية ومدنية وعلمانية ودينية متشددة وأخرى صوفية، فقررت البدء بمشروعها الديني التعليمي بصورة سرّية، إذ لم تكُن الأحوال آنذاك تسمح لها بأن يكون علانياً لجملة معطيات وأسباب، فبدأت بعقد حلقات دينية تعليمية مغلقة ضمن المنازل الموثوقة، وفي تلك الحلقات كان يجري تعليم الفتيات والسيدات والصغيرات على التربية الإيمانية والمجالس القرآنية بعيداً من الإعلان المباشر.
هدفت حركة 'القبيسيات' منذ نشأتها إلى التصدي لتقويم السلوك النسائي وتوجيهه نحو الالتزام الديني الصارم والتام، برفقة مراعاة أعلى درجات ضبط السلوك الاجتماعي والوجداني والشخصي ضمن الأسس الشرعية الناظمة، وبعيداً من أيّ من أوجه التطرف، كما قالت 'قبيسيات' لاحقات لـ'اندبندنت عربية'.
ونشاط الجماعة كان يتنامى في ظل وجود حافظ الأسد في الحكم، تحديداً بحدود ثمانينيات القرن الماضي، لكن النظام كان يتعامل مع الحركة بصمت شبه مطلق، مما أسهم في تحويل الجماعة الدعوية إلى تيار ديني يحظى بنفوذ وشعبية واتساع، فارضاً نفسه بقوة داخل مجتمع العاصمة أولاً، قبل أن يتمدد نحو مدن أخرى كحمص وحماه ودرعا واللاذقية وحلب.
يعلل بعض المهتمين بالشأن الإسلامي صمت النظام السوري عن الحركة بأنها انتهجت الصوفية التربوية والعقائدية بشدة وهو ما كان حافظ الأسد بأمس الحاجة إليه إبان مواجهته مع تيارات متشددة، فكرية أو عسكرية، كـ'الإخوان المسلمين' خلال تلك المرحلة الزمنية، وزاد في حظوة الجماعة ابتعادها الاختياري المطلق من الحياة السياسية والحزبية والعامة بمفهومها التقليدي المؤثر، وكذلك النقابات والاتحادات ومراكز القرار الفعلي.
واستهدفت الحركة على الدوام استقطاب مختلف الطبقات السورية النسائية الراغبة في التعليم والالتزام الديني، فقامت على بنية هرم متدرج يضمن للنساء التابعات له الملاذ الديني والاجتماعي والفكري الذي يحفظ لهن المكانة والاعتبار مع كل نمو للجماعة التي كانت تكبر فعلياً بتواتر مستمر وسريع نسبياً، ومع الوقت تبلورت تصورات الحركة لتصير أشبه بمدارس داخلية تتحكم بنمط رعاياها كلامياً وفكرياً وتعاملات ونمط لباس، حتى إن الحجاب كان يختلف في لونه بين المريدات تبعاً لوصولهن وتحصيلهن العلمي – الديني، وكل حجاب من ناحية لونه يرمز إلى مرتبة دينية بطبيعة الحال.
علقت 'القبيسيات' لفترة طويلة في مرحلة معقدة بين الاعتراف الرسمي واللااعتراف، الأول يقتضي التحالف مع السلطة ضمن منطق 'تعايش' توافقي، والثاني إمكان ملاحقتهن وسط جو من المتغيرات المتسارعة في لحظة غضب، فكان اختيار الحركة التحالف مع السلطة لضمان الاستمرارية والحصول على غطاء أمني يمكنهن من توسيع أنشطتهن والخروج من الظلمة إلى النور أخيراً، فكان القبول باستمرار العمل الدعوي تحت أعين أجهزة السلطة مقابل الاستمرارية، مما كرسه عهد الرئيس السابق بشار الأسد باتساع لافت.
مريد الصباغ، أمني سابق تقاعد عام 2006 يقول لـ 'اندبندنت عربية' إن 'القبيسيات' كنّ دائماً 'تحت نظر الأجهزة الأمنية بصورة مباشرة وحثيثة خشية من أي تطور عقائدي مخالف يؤدي إلى مسائل معقدة بعد السماح الواسع لهن بالانتشار الأفقي في المجتمع، بل السيطرة الواسعة جداً على النسوة السنّيات، ولكن ذلك السماح كان مقروناً بتحالف مشروط بين الجماعة ووزارة الأوقاف ممثلة عن القيادة، وكان ينص على عدم السماح لهن بتجاوز خطوط حمراء، على رأسها التدخل في السياسة بأي صورة، وعدم التشويش أو التأثير في عمل وزارة الأوقاف ونشاطاتها وفرقها الدينية، بل أن تكون الجماعة نفسها رديفاً للوزارة في تدعيم الخط الوسطي ضمن الإسلام المعتدل الذي يطغى على سوريا، وكذلك تحديد نشاطاتهن بما لا يسمح أن تنحو نحو المعارضة، أو أن تترجم بعضاً من تصرفاتها كأفعال معارضة، ومقابل ذلك حصلن على حضور منظم ومكتمل في المساجد والمدارس الشرعية والدور العلمية والجامعات من دون مضايقات أمنية وعسكرية وحزبية وسلطوية'.
ويكمل الصباغ أن 'الحركة سرعان ما أثبتت قدرتها على الاندماج والتكيف والانضباط الاجتماعي والامتثال والطاعة الكيفية النسوية للنظام نفسه، مما جعلها مع الوقت حليفاً موثوقاً، وأداة متينة للتحكم في شريحة واسعة من المجتمع السنّي النسائي، وأيضاً من دون أن تدخل مضامير السياسة والإعلام'.
وبقبول 'القبيسيات' لتلك الشروط كنّ في مكان ما يوقعن صك إعدام مشاركتهن في الحياة العامة الفعلية في بلدهن، فكان الإمساك بعصا التدين سبيلاً لمواجهة الرغبات التحررية للمشاركة في الحركات النسوية والمدنية والسياسية والبرلمانية والحقوقية.
الانعكاس المباشر لاحتواء تلك الشريحة الواسعة حرمها فعلياً من المشاركة في الحياة العامة، ودربها على طاعة الزوج والمنزل وأصول الدين وصوفيته بمعناه الأدق، وكذلك الطاعة المطلقة للمرشدة أو المعلمة، مما أدى إلى غياب الدور النقدي والفكري والتحرري في الشأن العام، وحول هؤلاء النسوة إلى سيدات منزل في الغالب، أو معلمات دين في منحى آخر، وكل ذلك كان يتم ضمن إطار هرمي داخلي متين في البيت الواحد الذي ميّز كل متعلمة مع درجة علمها الديني بلون حجابها.
وفي وقت عادت لتتنامى التيارات النسوية المدنية والقومية والحقوقية والسياسية في بلدان أخرى، مطالبة بالتحرر والمساواة والإنصاف والعدالة والتمكين السياسي، كانت أعداد كبيرة من النسوة السوريات جرى دمجهن في إطار الحركة التي بنت تحالفها المشروط قبل زمن طويل من ذلك مع السلطة، وحقيقة لم تكُن للحركة أية أطماع سياسية، إذ كانت معنية بالدين الإسلامي الشامي وتعزيز دوره ومكانته مع تحذير المريدات من مغبة العمل السياسي والنشاط في الحركات النسوية لما يمثله من تمرد ديني وتربوي، حتى إن 'القبيسيات' تمكنّ من استدراج نسوة وفتيات كثيرات من منتديات عصرية وثقافية وعلمية نحو مشروعهن، لتصير الحركة مع الوقت جزءاً قوياً ضمن وسائل السيطرة الاجتماعية التي كان يسعى إليها حكم البعث، وكانت 'القبيسيات' واستغلال رؤيتهن من بين أقصر الطرق لذلك.
منى صواف 'قبيسية' سابقة من حلب، تقول لـ'اندبندنت عربية'، 'بعد أعوام طويلة قررت ترك الجماعة إلى غير رجعة، للمرة الأولى كنت أشعر بحريتي، ومع تلك الحرية فراغ كبير، فالمعلمة أو المرشدة والأخوات يتركن داخلنا مزيجاً من المشاعر الكبرى، ولكنه كان قراراً ضرورياً بعد وقت طويل من الطاعة المستمرة للمرشدة والمنزل والتعليم، مما يجعل الانتظام من جديد في المجتمع المدني أمراً صعباً للغاية، خصوصاً بعدما قرأت عن رائدات التحرر العربي والمؤثرات الثقافيات والقوميات كمثل مي زيادة وهدى شعراوي وجميلة بوحيرد وكثيرات، كن يفعلن أشياء عظيمة لأوطانهن، فيما نحن كنا نتعلم الطاعة فقط'.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 وجدت 'القبيسيات' أنفسهن في موقف لا يحسدن عليه، شارع يهتف بالحرية، وآخرون يقفون ضدهم، والنظام في موقف متصلب، فيما الحركة محكومة بأطر وأسس لا تريد الخروج عنها وعلى رأسها عدم التدخل بالسياسة أو الخروج عن الطاعة وهو فرض بالنسبة إليهن ويتعلق بقاعدة إسلامية لا تجيز الخروج على الحاكم لدى بعض الفقهاء، لذلك استمر نهج العمل في المناطق الآمنة، وكذلك بحماية أمنية، أما في الأحياء التي شهدت مواجهات فانفرط عقد الجماعة فعلياً تحت تأثير الضرر والمواجهات، وموقف الحركة بحد ذاته بدأ يقابله الشارع الثائر بعين الريبة والشك، معتبراً إياهن امتداداً حيوياً متغلغلاً لمصلحة النظام في بيوت العائلات.
الضربة الكبرى التي منيت بها الجماعة كانت وفاة مؤسستها التاريخية ومرشدتها الكبرى منيرة القبيسي أواخر عام 2022، مما جعل الجماعة في اختلاط وترقب وارتياب، فهل يمكنها أن تكمل من دون المرشدة؟ أم أن الأمر سيكون صعباً وشبه مستحيل لما كانت تتمتع به من 'كاريزما' قيادية قادرة على حل كل المشكلات والخروج منها، بل نسج تحالفات متجددة في مصلحة الجماعة؟
لاحقاً، اتضح أن منيرة تركت خلفها إرثاً متيناً يتيح استمرار عمل الجماعة عبر معاونات لها وشيخات منتشرات وقيادات نسوية متنوعة وكثيرة، لكن ذلك بحسب عدد من 'القبيسيات' لم يعوض رحيل الأم.
وبعد رحيلها بعامين وسقوط النظام السوري السابق، أصبحت الحركة من دون غطاء وحماية أمنية ومجتمعية، فبات يسهل النظر إليهن بعد انتصار الثورة كأداة داعمة بقوة لنظام الحكم السابق الذي مكنهن من الولوج في عمق المجتمع النسوي الإسلامي، وذلك الاختبار يعني أن الحركة اليوم أمام خيارين، إما الحل تحت ضغط تأثير الشارع، أو إعادة صياغة خطابها بصورة براغماتية تراعي مرحلة انتصار الثورة.
يرى متابعون للشأن الإسلامي في سوريا أن الحركة اليوم تواجه أخطار الستينيات نفسها وقت النشوء، وهي أمام مرحلة معقدة ومكبلة، فالتحالف الأمني سقط تماماً، وهنا يشير الباحث في الشؤون الإسلامية حسن عبدالرحمن إلى أن سيناريوهات الحركة التي يمكن توقعها هي كالتالي 'إما الانحلال بصورة بطيئة تمهيداً لتفكيك بطيء لا يترك أثراً اجتماعياً واضحاً، وذلك يبدو منطقياً في ظل انتفاء الغطاء السياسي والأمني وحتى الديني أمام واقع وصول فرق إسلامية إلى السلطة السورية مغايرة عن تصورات ’القبيسيات‘، أو استمرار الجماعة كما بدأت بصورة محكمة السرية تمهيداً لإعادة تموضع في لحظة مواتية، وهن يملكن خبرة واسعة في ذلك، أو الشروع في منطلق جديد يقدم نفسه على أنه غير متأثر بالراديكالية الإسلامية المتنامية إنما ينحو نحو التوجه الإسلامي العام في الدولة الذي كثيراً ما اختار الصوفية والوسطية والأشعرية كأسلوب دين وحياة'.
رقية الوافي إحدى السيدات 'القبيسيات' في دمشق التي لا تزال متمسكة بالجماعة، تقول لـ'اندبندنت عربية'، 'لن نترك مشروعاً بنيناه بأحداقنا، الجماعة هي بيتنا الثاني، وربما الأول، علمنا الأخلاق والدين وأصول الفقه والقرآن والحديث والإسلام الجميل، وأنا وصلت إلى مرحلة صرت فيها أعلم حلقة من المريدات، اليوم نعم علينا مراعاة ما تريده الدولة، لكن من دون الاستغناء عن مشروعنا، نحن لم نعلم أحداً التكفير، ولم ندفع أحداً إلى التمرد، ولا نشكل خطراً على أحد، ولا أعتقد بأننا ملاحقات أو أن تهديدات قد وصلت إلى الجماعة من السلطة'.
وبدأت 'القبيسيات' يجدن أنفسهن أمام معضلة مركبة ما بين النهج الصوفي الوسطي والنهج الإسلامي الراديكالي، وما بين التربية الروحية والصراع العنفي القائم، لذا فإن التحدي يكمن في مدى قدرتهن على التكيف مع المستجدات، مما يقود إلى مسارات متباينة، من بينها التكيف الشكلي لتجنب الصدام المباشر، خصوصاً أنهن ما زلن بعيدات من التهديد، على رغم حساسية ملفهن الأمني وخدماتهن الكبرى في مراحل سابقة لأنماط سياسية متعددة، أو خطر الانهيار والتفكك والانحسار المحمول على الحظر والاضطهاد والملاحقة نتيجة الخلاف البيني مع التيارات المتشددة، أو القبول بأية فرضية تحمل نوعاً من التعايش المشترك المحدود ضمن رؤية جديدة تضمن استمرار ممارسة نشاطاتهن.
ويقول المطلع على شؤون 'الحركة القبيسية' نشأة ودوراً وتأسيساً وأهدافاً، الخبير الإسلامي صالح نجيب إن 'تجربة ’القبيسيات‘ حال فريدة للغاية، فقد كانت تعنى بتقويم السلوك والانضباط والتدين، وكذلك كانت أداة لضبط الشارع النسائي بيد النظام، اليوم هناك تحدٍ مصيري يتعلق باستمرار النهج الوسطي أو ستخضع لقوة التيارات الدينية المحافظة، مما يعتمد على إعادة إنتاج خطابها الديني والدعوي ليناسب الواقع الجديد من دون الابتعاد من أهدافها المركزية، وفي الوقت نفسه مراعاة المتغيرات لئلا يكون مصيرها التلاشي'.
في خمسينيات القرن الماضي حصلت منيرة القبيسي على إجازة جامعية في علم الأحياء من جامعة دمشق، في وقت كان وجود النساء المحجبات شبه نادر في الجامعات، ثم ألحقت شهادتها الأولى بشهادة جامعية في الدراسات الإسلامية (الشريعة)، ومن ثم تعلمت أصول 'الروحانيات الإسلامية' على يد بعض من أشهر علماء عصرها في دمشق، قبل أن تحصل على إجازة للتدريس وتنال لقب 'مرشدة روحية'.
ومن ثم أسست الحركة الروحية النسائية التي حظيت بطابع مستقل بالتعاون مع كبار علماء دمشق، لتصير زعيمة روحية مسلمة معترفاً بها في الأوساط الإسلامية، وتتلمذت على يديها مئات اللاتي برزن لاحقاً في حقول عمل 'القبيسيات'، أمثال درية العيطة التي ألفت كتاب 'فقه العبادات على المذهب الشافعي' واشتهرت به.
المرشدة التي ولدت عام 1933 توفيت في الـ 26 من ديسمبر (كانون الأول) 2022 عن 89 سنة، وحظيت بجنازة كبيرة حضرتها حشود من بينهم كبار علماء المسلمين من سوريا وخارجها.