بطرس الأكبر ووزراة الأوقاف! .. عصام داري ..

سجَّلَ التاريخ أسم قيصر روسيا بطرس الأكبر (1672-1725) كأحد أبرز من صنع التاريخ في العالم، فماذا فعل هذا القيصر حتى استحق كل هذا الاهتمام العالمي؟.

عندما استلم الحكم وكان عمره لا يتجاوز التسعة عشر عاماً، كانت روسيا تقبع في أسفل الهرم على مستوى القارة الأوربية من حيث العلوم والصناعة والاقتصاد وبناء الأسطول وصنع السلاح، أي أنها من دول العالم الثالث.

أجرى بطرس الأكبر عدة إصلاحات في الإدارة والمالية والصناعة والمجتمع، لكن أهم ما قام به تمثَّل في أمرين اثنين، أولهما أنه أصلح الكنيسة ووضع لها حداً لا تستطيع تجاوزه بحيث لا تتدخل في شؤون الحكم، أي عدم تدخل الدين بالسياسة، وثانيهما أنه بنى أسطولاً بحرياً عظيماً لروسيا.

تقول الرواية أن بطرس الأكبر سأل أركان حكمه من أين تستورد روسيا السفن، فقيل له: من فنلندا، فما كان منه إلا أن أوفد إلى فنلندا بعثةً من مئتي شاب كي يتعلموا صناعة السفن، لكن الأغرب والأكثر جرأة أنه كان من ضمن هذه الدفعة من الشباب، إذ كان يتنكر ويعمل في بناء السفن.

وتقول الرواية أيضاً أن بطرس الأكبر كان يقف على شرفة قصر الكرملن فشاهد عن بعد فتاة تتجادل مع حرس القصر فطلب منهم إحضارها لمعرفة سبب ثورتها البادية عن بعد، فقالت له: يا مولاي لقد مات أبي ولم يوافق رجال الدين والقساوسة على دفنه إلا إذا دفعت المال.

على الفور طلب إحضار رجل الكنيسة الذي أفتى بعدم جواز دفن والد الفتاة وأمره بترتيب جنازة وكأن الميت هو القيصر، وبعد ذلك أعدم رجل الدين بطريقة مريعة.

قد يكون هنالك مبالغة في رواية هذه القصة، لكن المؤكد أنه كان قاسياً خاصة في تعامله مع جموح رجال الكنيسة وطموحهم في التدخل في سياسة الدولة.

لماذا أستعيد سيرة هذا القيصر الذي عاش في القرنين السابع والثامن عشر ونحن اليوم في الألفية الثالثة؟.

السبب أن ما قام به رجل الدولة هذا كان الخطوة الجبارة التي نقلت روسيا من دولة ضعيفة من دول العالم الثالث إلى دولة عظمى هي اليوم واحدة من دولتين عظميين في العالم.

أي أنه وجد الطريق الصحيح للخروج من الجهل والتخلف والضعف إلى عالم العلم والتقدم والقوة، وهو الذي وضع اللبنة الأولى في صرح روسيا التي نعرفها اليوم، وقبل ذلك عندما صارت هذه الدولة اتحاداً لعدد من الدول هو 'الاتحاد السوفييتي'.

أرى بكل تواضع أن الطريق إلى نهوض الأمم والدول يبدأ من تحييد المعابد وعدم السماح للدين أن يلعب في ملاعب السياسة والدولة، مع كل الاحترام لجميع الأديان، فدورها ينحصر في الطقوس والشعائر الدينية وحماية المثل والدفاع عن مكارم الأخلاق والعمل الدؤوب في سبيل الإنسان والعمل الإنساني.

لكن عندما تكون وزارة الأوقاف أهم من وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام نكون قد ركبنا القطار الغلط الذي يسير بسرعة الصوت نحو العصور الوسطى، وربما نصل ذات يوم إلى العصر الحجري بأمان الله!.

لا أحد يريد مصادرة دور الدين ووزارات الأوقاف، لكن في المقابل من غير المعقول أن تصادر وزارات الأوقاف دور الدولة وسياسة البلاد، لأن ذلك عكس المنطق والعقل والعلم وطبيعة الأشياء.

بطرس الأكبر واجه غضباً شديداً من قبل رجال الدين في البداية، لكنهم في نهاية المطاف رضخوا للأمر الواقع تارة بالإقناع، وفي أغلب الأحيان بالشدة والبأس الذي لم يكن ينقص هذا القيصر الذي علَّم التاريخ كيف تُصنع الدول العظمى.

قرونٌ ونحن ندعو الله لنصرنا على أعدائنا، وقرونٌ تلي قرون ونحن في مكاننا لا نتحرك خطوة تقربنا من الزمن الذي نعيش فيه، وكأننا مازلنا في القرن السابع الميلادي، العالم يسير بسرعة مذهلة على طريق التقدم والازدهار والتطور في المجالات كافة، بينما نحن في المكان نراوح، وبالعكس، نسير خطوات إضافية نحو الوراء.

لا أظن أن كلامي سيلقى صدى إيجابياً عند كثيرين، لكن المهم ألا نقف على دمارنا ونطلب من الله العون، دون أن نقول كلمة قد لا تقدم ولا تؤخر، لكنها كلمة من أجل قراءة التاريخ ومعرفة كيف صعدت وانهارت الدول والإمبراطوريات.

المقال يعبر عن رأي الكاتب ..

صفحتنا على فيس بوك

الوسوم