اخبار سوريا
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٤
متاجر بيع الأقراص المضغوطة ومحال إصلاح الكاسيت ووظائف إدارية وفنية
أثر الإنترنت كثيراً مع تنامي استخدامه وسط ثورة التكنولوجيا العالمية في قطاعات العمل المختلفة، وقد قضى على بعضها تماماً كمهن مثل متاجر بيع الأقراص المضغوطة وساعي البريد وعمال التوصيل وغيرها العشرات، كذلك فإن تأثيره المباشر طاول أيضاً العمالة اليدوية من خلال التطبيقات الإلكترونية التي حلت مكان اليد البشرية العاملة في بلد مثل سوريا لا يحتمل تغييراً متسارعاً كهذا، نظراً إلى نسبة البطالة فيها التي تعتبر من بين أعلى النسب عالمياً.
آخر المستسلمين
آغوب مارديكيان واحد من أواخر الذين ناضلوا للاستمرار في العمل في قطاع بيع الأقراص المضغوطة والليزرية في دمشق حتى حدود عام 2015 مع لحظة الانهيار التام في المبيعات شهراً تلو آخر، أقله في الأعوام الخمسة أو الستة التي سبقت تخليه عن مصلحته.
خلال حديثه إلى 'اندبندنت عربية' يوضح آغوب ذلك التغيير الذي طاول مصدر لقمة عيشه بقوله 'ما ساعدني على الاستمرار ليس استمرار المبيعات حتى عام إغلاقي، بل لأن متجري كان ملكاً شخصياً فلم يكن لدي إيجار بأرقام مرتفعة، إذ كنت وسط السوق، وكذلك تكدس البضائع لدي من مئات آلاف الأقراص التي كان تصريفها مستحيلاً'. ويكمل المتحدث قوله 'في الأقل منذ بدء ثورة الحواسب الآلية أواسط التسعينيات وحتى انتشار الإنترنت بصورة فعلية عام 2010 عشنا مرحلة ذهبية في عملنا وجنينا كثيراً من الأموال، أما الآن فكل ما كنا نبيعه متوافر على الإنترنت ومجاناً، من برامج وأغان وألعاب وغيرها، فاضطررت مرغماً إلى الإغلاق'.
فولكلور للعرض فقط
كان متجر آغوب يقع في سوق البحصة بدمشق، وهي واحدة من كبرى الأسواق المتخصصة بالإلكترونيات والتكنولوجيا في العاصمة، حيث لا يصعب اليوم على الزائر إيجاد محال تعرض أو تبيع أقراصاً مضغوطة ولكنها بكل تأكيد لا تعتمد عليها كمصدر دخل، بل طور الناس محالهم نحو بيع الأمور التكنولوجية المطلوبة من حواسب محمولة ومعداتها ولوازمها إلى جانب الهواتف المحمولة ومعداتها، مع الاحتفاظ بركن بسيط لعرض أقراص مضغوطة تقتصر على البرامج الهندسية التخصصية وكنوع من الديكور أكثر منه غرضاً للبيع والتجارة.
مازن قباقيبي أحد أصحاب المحال هناك الذي لا يزال يملك جانباً يعرض فيه أقراصاً مضغوطة عددها لا يتجاوز الـ20، يقول لـ'اندبندنت عربية' إنها برامج هندسية ثقيلة التحميل والمعني بها فقط طلاب الهندسات المدنية والمعمارية والمعلوماتية. ويضيف 'سعر القرص المضغوط لهذه البرامج مثل أوتوكاد أو 3d max وغيرهما دولاران أو ثلاثة، وقد نبيع قرصاً في الشهر أو لا نبيع، والطالب يشتريه ثم يمرره مجاناً لكثير من زملائه، مما يعني انخفاضاً في مبيعاتنا، ويحصل ذلك لأن تحميل هذه البرامج صعب من الإنترنت، وأيسر من القرص المضغوط'.
مازن طور عمله باتجاه الحواسب المحمولة ومجال إصلاحها واستبدالها، ويرى أن هذه المهنة الآن جيدة جداً قياساً بوضع مهنة بيع الأقراص التي كانت قبل سنوات قليلة تنافس في دخلها الشهري المطاعم والمنشآت والقطاعات الأخرى قبل أن يقضي الإنترنت عليها تماماً.
ساعي البريد
كان سليم أبو ناصر واحداً من أواخر سعاة البريد العاملين حتى خروجه إلى التقاعد عام 2010، ظل يمارس مهنته في إيصال الرسائل المكتوبة يدوياً من مركز البريد إلى مخاتير الأحياء أو الأشخاص المرسل إليهم مباشرةً حتى قرابة عام 2006/2007 حين حلت المراسلات الإلكترونية مكان عمله، لينتقل، بدوره، شاغلاً وظيفة إدارية في مؤسسة البريد.
أبو ناصر عمل زهاء 40 عاماً في تلك المهنة على دراجته الهوائية، وكثيراً ما كان يصادف أناساً تطلب منه قراءة الرسالة لهم لجهلهم في القراءة والكتابة، فتارة ينقل أخباراً سعيدة وأحياناً أخباراً حزينة.
يقول عن العقود الأربعة تلك بحسرة إنها كانت أجمل أيام حياته، 'إيصال الرسائل للناس كان أمراً غاية في المتعة، خصوصاً إذا كان محتوى الرسائل جيداً وفرحاً فترى الناس من تلقاء أنفسهم يكرمونك بمزيد من المال'. ويتابع 'منذ بداية الألفية الحالية تقريباً بدأ عملنا بالتراجع كثيراً، وحلت مكانه بدائل عدة من الرسائل النصية على الهاتف، وصولاً للإنترنت ورسائله وما يتعلق به، وكذا انخفضت وتيرة عملنا وعدنا موظفين مكتبيين بعد أن اشتهرنا بملابسنا المعروفة وعلاقاتنا الواسعة مع كل سكان المدينة، اليوم انقرضت هذه المهنة تماماً ولم يعد هناك أي وجود للبريد'.
حتى المسجلات
كذلك انقرضت مهنة بيع الكاسيت بعد أن وفّر الإنترنت مجالاً واسعاً ومفتوحاً بالمطلق للحصول على مكتبة شاملة للموسيقى المجانية، الأمر لم ينعكس فقط على إغلاق محال بيع أشرطة الكاسيت، بل على محال الإلكترونيات التي كانت تعنى بتصليح المسجلات التي لم يعد أحد يستخدمها.
يعاني ذلك الأمر مريد الحاج، وهو مصلح إلكترونيات، يعنى محله الصغير بإصلاح المسجلات والتلفزيونات القديمة التي ما عادت مستخدمة بوفرة في هذه الأيام في ظل الاستغناء الواسع عنها.
يقول مريد لـ'اندبندنت عربية'، 'لا أزال أحتفظ بمحلي والبضائع المكدسة به، ولكن من دون زبائن، ما فائدة المسجلة اليوم في عصر ثورة المعلومات والتقانة ومكاتب الموسيقى الحية على الإنترنت، وما فائدة التلفزيون من دون كهرباء وفي ظل وجود كل ما يعرض عليه متاحاً مجاناً عبر الإنترنت وبدقة عالية'.
مريد يرى أن الإنترنت بفوائده يحمل مضار أكثر على قطاعات العمل الصغيرة في كل الأماكن، وينطلق في ذلك من النظر إلى مهنته التي تهاوت حتى بات مضطراً إلى العمل في مجال إصلاح سخانات الكهرباء الحرارية وأجهزة الإنترنت المنزلي عوضاً عما عمل به لعقود.
ويشير صاحب المحل الصغير إلى أن التكنولوجيا قضت أيضاً على مرحلة الهاتف الأرضي الذي بات لا يستخدم إلا بقصد الحصول على بوابة إنترنت منزلية من دون أن يصار لاستخدامه في إجراء المكالمات، مما خفض عمله في إصلاح أجهزة الهاتف الأرضي أيضاً.
تحييد العنصر البشري
ضابط سابق في الجيش السوري، مشير عباس، ينوه إلى أن تطور الإنترنت والتكنولوجيا عامة يحمل أخطاراً أبعد من انقراض المهن اليدوية التقليدية، ويبدو ذلك من انخفاض دور الطائرات الحربية المقاتلة والاعتماد الواسع جداً على المسيرات التي يجري التحكم بها من بعد.
ويشرح في هذا الصدد أن الأعوام المقبلة قد تحيد الطيارين الحربيين لمصلحة درء الخسائر وخفض الموازنات وقوى الشراء من بلدان المنشأ لمصلحة استخدام طائرات مسيرة أخف كلفة بكثير وأكثر مرونة وقدرةً على المناورة والاختراق.
ويستشهد في ذلك بقدرة الطيران المسير على اختراق الرادارات أحياناً وضرب أهداف حيوية واغتيال شخصيات مهمة، والأحداث الحالية في فلسطين ولبنان وسوريا والضربات الإيرانية السابقة على إسرائيل والحرب الأوكرانية مع الزخم الصناعي الروسي والأميركي والإيراني والإسرائيلي والصيني وغيرها خير دليل على استبعاد العنصر البشري.
في إطار مواز ينوه الجنرال المتقاعد إلى أنه حتى السينما استغنت عن كثير من العنصر البشري في تصوير مشاهدها لمصلحة استخدام طائرات من نوع 'درون'، مستدلاً على مفارقة حصلت بين عامي 2009 و2015 حين كانت المشاهد تُصور من الجو باستخدام مصور وطائرة هليكوبتر، أما الآن فيجري التصوير ببساطة بواسطة درون صغيرة، يستخدمها أيضاً بعض الصحافيين في أعمالهم.
انقراض بالجملة
يشهد العالم اليوم ثورة جديدة في الذكاء الاصطناعي الذي انعكس سريعاً على عمل الصحافيين، مثلاً في قدرتهم على توليد النصوص المكتوبة الجاهزة من دون أي عناء، ومضامير كثيرة أخرى، مما يهدد باندثار مهن لا حصر لها، كثيراً ما كانت أساسية، فالتكنولوجيا المتقدمة باستمرار تكفي.
ومن أبرز تلك المهن المهددة بحلول عام 2030 حسب دراسات تخصصية عدة: أمناء الصناديق، ومعتمدو قبض الرواتب في المديريات الحكومية، الذين حلّ مكانهم الصراف الآلي، وكذلك مختصو دراسة الحقول، وإدخال البيانات والمهن الإدارية، وخطوط التصنيع والتجميع والبيع بالتجزئة، وكذلك الأدوار التحليلية الأساسية وتصميم الغرافيك الأولي والترجمة والتصوير الفوتوغرافي وتعديلاته، إضافة إلى أنظمة التفتيش والعاملين في المونتاج وقطاع سيارات الأجرة والتوجه نحو القيادة الذاتية، ومساعدو المحامين، إلى جانب الرعاية الصحية وتطوير مواقع ويب وباعة المتاجر وقطاع البنوك والسياحة والسفر ومضيفي الطيران.
ولكن في الوقت ذاته وبحسب دراسة لمجلة 'فوربس' فإنه على رغم أن تطور الذكاء الاصطناعي يشير إلى تحولات كبيرة في سوق العمل، إذ إنه قد يحل محل أدوار معينة، فإنه أيضاً يفتح فرصاً جديدة في القطاعات التي تتطلب اتخاذ قرارات معقدة، والذكاء العاطفي، والمهارات الإبداعية، وهي سمات لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها.
ويشير التقرير إلى أن فهم هذه الاتجاهات أمر بالغ الأهمية لإعداد القوى العاملة في المستقبل، وسيحتاج التعليم والتدريب إلى التكيف لمساعدة الأشخاص على الانتقال إلى أدوار تظل فيها الخبرة البشرية غير قابلة للتخلي عنها.