اخبار سوريا
موقع كل يوم -الجماهير
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
الجماهير|| أسماء خيرو..
في ورشته المتواضعة بسوق النحاسين في حلب، حيث تملأ رائحة نشارة الخشب الأجواء، وتتراقص ذكريات الماضي بين الجدران، يجلس الحاج 'محمد تنفكجي' الملقب بـ'أبو عمار'، محاطًا بآلاته الصامتة كرفاق درب أنهكهم الزمن.
أمضى 'أبو عمار' 64 عامًا بين الخشب وأنامله، يحوّله إلى أدوات منزلية كانت تزين بيوت حلب وتنتشر في المطابخ السورية، حاملةً دفء الصنعة وإتقان صانعها. أما اليوم، فالمشهد متوقف، والورشة مشلولة بسبب انقطاع الكهرباء، في انتظار عودة النور أو أيام لا تنسى.
من المحلي إلى العالمي: رحلة أدوات لم تعد تعبر
يشرق وجه 'أبو عمار' حين يتذكر أيام المجد، حين كانت ورشته خلية نحل لا تهدأ: 'كنت أصنع أدوات الحلواني وقوالب العجوة والمعمول، وكان الطلب يأتينا من الحسكة والقامشلي ودير الزور'. منتجاته، المصنوعة بدقة حرفي متمرس، لم تكن تتوقف عند حدود سوريا، بل كانت تعبر البحار إلى أسواق أوروبا، حاملةً عراقة الصنعة السورية.
بعد الحرب، تغير المشهد جذريًا. يقول 'أبو عمار' بصوت حزين: 'تأثرت مهنتنا كثيرًا، توقف الطلب على معظم الأدوات، واقتصر عملنا الآن على أدوات المطبخ الأساسية وبعض أدوات الحلويات'. تقلصت الخريطة الجغرافية لعمله كما تقلصت أحلامه، وأصبحت أوروبا ذكرى بعيدة.
الزان والمشمش والسنديان: خامات تروي قصة الصنعة
يستعرض الحرفي الخامات التي تشكل أساس فنه، من خشب الزان والمشمش والحور والسنديان، ثم يشرح مراحل التصنيع الدقيقة التي تبدأ بقطعة خشب وتنتهي بتشكيلها بإتقان، مستخدمًا آلات تقليدية كالمخرطة والمنشرة والمنقرة. ويؤكد أن كل قطعة تحتاج وقتًا مختلفًا، بين 'الملاعق والشوبك والهاون الخشبي وعصارات الليمون وكراسي الفرم'.
التحديات: انقطاع الكهرباء يهدد الإرث
أمام هذا الإرث الحرفي، تقف تحديات جسام، أبرزها انقطاع الكهرباء الذي يشل العمل تمامًا. يقول 'أبو عمار': 'عملي متوقف بسبب عدم تغذية السوق بالكهرباء في ساعات الصباح. لا نستطيع الاعتماد على بدائل مكلفة كالمولدات لأنها ستجعلنا نتكبد خسائر'.
ولا تقف المشكلة عند الكهرباء، بل تمتد إلى مستقبل المهنة نفسها. يخشى 'أبو عمار' أن تختفي صناعة الأدوات الخشبية ولا يتوارثها الأجيال، في معادلة صعبة: 'جسد ينحني لساعات، وموهبة تتوارى، في مقابل مردود مادي لا يكاد يذكر'.
عصا البقلاوة: تحفة الدقة والإتقان
وعند سؤاله عن القطعة الأكثر دقة، يبتسم 'أبو عمار' وكأنه يتحدث عن ابنه المدلل: 'عصى الحلواني الخاصة بالبقلاوة هي الأكثر حاجة للجهد والدقة في المقاسات، فهي أداة فنية تساهم في صنع حلوى تراثية'.
نداء لحماية المهنة
يختم الحرفي حديثه: 'أفنيت 46 عامًا في هذه المهنة، وهي جزء من تاريخنا وتراثنا. أتمنى أن تجد هذه الحرفة من يحميها قبل أن تصبح مجرد ذكرى في كتب التاريخ'.
ثم يعود 'أبو عمار' ليوقف أمام مخرطته الصامتة، مصممًا على إظهار مهارته رغم التحديات، ليذكرنا بأن قصته ليست مجرد سرد لتراجع حرفة، بل انعكاس لتراجع تراث كان يومًا مزدهرًا. ويبقى السؤال: هل ستُترك هذه الحرفة لتغلق أبوابها إلى الأبد، أم سيكون هناك أمل بإيجاد حل يُعيد إحياء سوق النحاسين قبل أن يصبح ذكرى؟