إسرائيل ورسائل قصفها المكثف على سوريا

يرى مراقبون أن حكومة نتنياهو ترغب في دولة مجاورة منزوعة السلاح

لم تتوقف إسرائيل منذ اليوم الأول لسقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 عن قصف المواقع العسكرية ومخازن الأسلحة الاستراتيجية في مختلف المحافظات السورية تحت ذريعة خوفها من استخدامها من قبل الإسلاميين الذين وصلوا أخيراً إلى سدة الحكم في دمشق.

حرب إسرائيلية على مقدرات البلاد العسكرية مستمرة إلى درجة لم تنفع معها كل الطرق والرسائل السياسية والدبلوماسية من الإدارة الجديدة التي كشفت عن تطمينات تبثها حول سياسة الحكومة الجديدة الخارجية ولا سيما نيتها باستقرار المنطقة وعدم العداء مع أي دولة، مع الالتفات للشأن الداخلي وما يتعلق بالسلم الأهلي والاستقرار الأمني وإعادة الإعمار التي تشغل العهد الجديد.

وقبل أيام شنت مقاتلات إسرائيلية سلسلة غارات عنيفة استهدفت مواقع عسكرية منها مركز البحوث العلمية في مساكن برزة بالعاصمة دمشق، مع ضربات أخرى استهدفت مطار حماة العسكري بالتوازي مع توغل بري من الجهة الجنوبية في ريف درعا، واعتبرت حكومة بنيامين نتنياهو الهجمات بمثابة تحذير للحكام الجدد في دمشق مع رسائل إلى تركيا التي تحاول فرض وصايتها على سوريا.

وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إن تركيا تؤدي دوراً سلبياً في سوريا. وأضاف خلال مؤتمر صحافي في العاصمة الفرنسية باريس أول أمس الخميس 'يبذلون قصارى جهدهم لجعل سوريا محمية تركية، ويجب ألا تكون سوريا كذلك'.

في المقابل أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن أنقرة لا تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل في سوريا والضربات الأخيرة تضعف معركتها ضد 'داعش' وتؤجج الاستقرار الإقليمي لكن إذا أردت دمشق تفاهمات مع إسرائيل فهذا قرارها.

الاكتفاء بالصمت أم الرد؟

في غضون ذلك تشير المعطيات السياسية والميدانية إلى بروز تفاهمات (تركية - سورية)، مرشحة للانتقال إلى حيز التنفيذ في أي لحظة، في ظل المستجدات الإقليمية والدولية المتسارعة.

 ويرى متابعون أن هذه التفاهمات تتجاوز حدود التنسيق السياسي، وتمتد لتشمل جوانب دفاعية استراتيجية، من أبرزها إعادة تأهيل الجيش السوري الجديد بدعم مباشر من أنقرة تدريباً وتسليحاً، وإنشاء مراكز عسكرية تركية على الأراضي السورية لتأمين الاستقرار وضبط الحدود، لا سيما في ظل التراجع الأميركي عن المشهد.

وقال الباحث التركي في السياسة الخارجية علي الأسمر في قراءته الواقع الجيوسياسي، إن أنقرة وحدها تملك القدرة والإرادة لملء الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأميركي من سوريا، سواء أرادت إسرائيل ذلك أم لا، فإيران حسب رأيه كانت لاعباً أساساً في الأعوام الماضية لكنها أقصيت فعلياً من تلك الساحة بفعل توافقات إقليمية ودولية، كما أن روسيا منشغلة كلياً في مستنقع الحرب الأوكرانية، وغير قادرة على الاستثمار مجدداً في الجغرافيا السورية.

وأوضح الأسمر في حديث إلى 'اندبندنت عربية'، أنه 'على رغم محاولات إسرائيل التغلغل عبر بوابات الأقليات أو التعاون الاستخباراتي، فإنها تفتقر إلى الشرعية الشعبية داخل سوريا، بل تنظر إليها من غالبية السوريين كعدو تاريخي، بخلاف تركيا التي على رغم كل تعقيدات الماضي فلا تزال تتمتع بحضور سياسي وميداني قابل للبناء عليه، لا سيما في حال نشوء تفاهمات جديدة مع الدولة السورية'.

ومع هذا أكد الباحث التركي وجود محاولات إسرائيلية تستهدف عرقلة التحالف التركي السوري عبر مشاريع التفتيت أو اللعب على الهويات المذهبية والعرقية ولن تنتج سوى مزيد من التوتر في ظل عدم قدرتها الفعلية على ملء الفراغ، فالمعادلة الدولية تتجه نحو التسليم بالدور التركي كقوة إقليمية قادرة على ضمان الاستقرار في شمال سوريا وشرقها في ظل غياب بدائل موثوقة.

وكانت تركيا عام 2019 أقامت 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وحماة وحلب بالاتفاق مع روسيا وإيران بهدف تطبيق ما يعرف بمنطقة خفض التصعيد بعد احتدام المعارك بين قوات نظام الأسد والمعارضة المسلحة مع محاولتها إنشاء منطقة عازلة بعمق 30 كيلومتراً لوقف ما وصفته تهديدات الأمن القومي من قبل قوات حماية الشعب الكردية.

وتنتشر القوات التركية عبر إجمالي 126 موقعاً عسكرياً في سوريا معظمها في الشمال الغربي من البلاد منها 12 قاعدة عسكرية، إضافة إلى 114 نقطة عسكرية موزعة في حلب وإدلب والرقة والحسكة واللاذقية وحماة.

مظلة إقليمية

بالعودة إلى الضربات الإسرائيلية فإن الأسباب الحقيقية تتمحور حول الدور التركي ومنع حكومة نتنياهو من تحويل تركيا الأراضي السورية قاعدة عسكرية لها مستفيدة من الفراغ الذي تركه الروس والإيرانيون. وجاءت هذه الضربات بعد زيارة تركية لمواقع عسكرية في سوريا لإنشاء قواعد لها على تلك الأراضي وسط سوريا منها (قاعدة تي 4، قاعدة تدمر، مطار حماة) لتقييم حالة مدرجات الطائرات، والحظائر التي تضمها والبنى التحتية.

وبات واضحاً مساعي دمشق إلى توسيع مظلة الحماية الدبلوماسية عبر إدخال أطراف عربية ودولية في مشهد يتجه نحو ضبط السلوك الإسرائيلي، سواء من خلال تحريك قنوات الأمم المتحدة أو عبر تفعيل التنسيق مع الدول العربية والغربية التي تحاول السعي أيضاً إلى دعم سوريا الجديدة والوقوف على قدمها بعد عقد من الحرب والصراعات، وبعد سقوط النظام البائد.

وهنا اعتبر الباحث الأسمر أن تركيا تؤدي دوراً مهماً وثقلاً في الشأن الميداني والسياسي، وتشكل مظلة إقليمية قادرة على تحقيق نوع من الردع غير المباشر في وجه التوغلات والضربات الإسرائيلية المتكررة داخل الأراضي السورية من دون الانجرار إلى حرب شاملة قد تكون كارثية على جميع الأطراف، وعضوية تركيا في حلف الناتو تشكل عامل توازن إضافياً يمنع أي انزلاق نحو صدام مباشر مع إسرائيل، بخاصة أن واشنطن لا تزال تمسك بمفاتيح التهدئة بين الحلفاء وليست في وارد السماح بتفجير الساحة السورية.

ومضى في حديثه 'في ظل هذه التوازنات الدقيقة لا يستبعد أن نشهد في المرحلة المقبلة طرح مبادرة (أميركية - تركية) لرعاية اتفاق أمني أو سياسي بين سوريا وإسرائيل، سواء تحت مسمى 'معاهدة سلام' أو 'ضمانات متبادلة لعدم الاعتداء'، خصوصاً إذا اقترنت هذه الخطوة بإعادة هيكلة المشهد السوري ودمج دمشق الجديدة في النظام الإقليمي وفق شروط جديدة.

التصعيد المنتظر

إزاء ذلك توفرت معلومات عن دفع تركيا نحو تجهيز قاعدة 'تي 4' بأنظمة دفاع جوي لتوفير الغطاء لها في حال أرادت التوسع، ووفق تقارير إعلامية كشفت عن عزمها نشر طائرات مسيرة للمراقبة وأخرى مسلحة بما في ذلك الطائرات القتالية القادرة على تنفيذ هجمات طويلة المدى.

الباحث في الشؤون العسكرية العقيد عبدالجبار العكيدي كان واحداً من أوائل الضباط الذين أعلنوا انشقاقهم عن جيش بشار الأسد لعدم سماح النظام لهم بالتقاط أهداف إسرائيلية على رادارات منظومات الدفاع، واليوم رأى أن ما يحدث من تصعيد يتخطى كونه 'عدواناً على السيادة السورية ومقدرات الشعب، بل السعي إلى تدمير كل سلاح الجيش الاستراتيجي من منظومات دفاع جوي ورادارات ومراكز البحوث العلمية والمطارات والطائرات والفرق العسكرية، لأن إسرائيل تعلم جيداً أن القيادة الجديدة ليس بمقدورها ردع هذه الضربات. والهدف الواضح هو جعل سوريا منزوعة السلاح وبلا مخالب وأنياب، عدا عن خلق حال من زعزعة الاستقرار وإعاقة استتباب الأمن في البلاد'.

قال العكيدي إن الوضع في سوريا بات شديد التعقيد، فمنذ سقوط النظام وهرب بشار الأسد بدأت إسرائيل في قصف مقدرات الجيش كأنها عملية انتقام للرئيس السابق وعدم اطمئنان لأي قيادة تأتي بعد نظامه، وتابع 'هذا النظام وقع معاهدات واتفاقات وأجرى تسليم الجولان منذ عهد حافظ الأسد وكل المناطق كانت آمنة بالنسبة إلى إسرائيل، لأنها لم تكن للتصدي لها بل لقتل شعبه، الطيران الإسرائيلي حلق فوق القصر الجمهوري في اللاذقية قبل أعوام من اندلاع الثورة، وكان وقتها يحتفظ في حق الرد لكن من دون أي رد'.

في المقابل استبعد الأسمر احتمالات التصعيد غير المباشر، وعلى رغم التوترات المتزايدة في الساحة فإن المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وتركيا تبقى شبه مستحيلة، ليس فقط بسبب اعتبارات القوة، بل نتيجة لتعقيدات الموقع الجيوسياسي والدبلوماسي الذي تحتله أنقرة حالياً.

وختم حديثه بالقول 'أي محاولة من قبل إسرائيل لمواجهة تركيا عسكرياً ستفسر على أنها خطوة انتحارية دبلوماسياً، لأنها ستفجر توازنات دقيقة على أكثر من جبهة، وتفقد إسرائيل قنوات الوساطة التي تعتمد عليها في تفكيك أزماتها الكبرى، سواء في غزة، أو في علاقاتها المتوترة مع واشنطن، أو في محيطها العربي'.