اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ١٩ نيسان ٢٠٢٥
منذ تشكيل 'الشرق الأوسط' في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم تنقطع المسيرة الأوروبية أولاً ومن ثم الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في قراءة هذا الشرق وتفسيره وتقديمه لنفسه وللعالم، دون أن يتوقف الماضون في القراءة الآتية من فوق، لإتاحة الفرصة لأصحاب هذه الجغرافيا، ليعبّروا عن رؤيتهم ويفسّروا ذواتهم بأنفسهم.
فالتقرير الغربي حولهم كان دائماً جاهزاً من أجل تشكيل النظرة المناسبة التي يجب أن يعتمدها الجميع حول الشرق وسكّانه، وفي أحيانٍ عديدة، بهدف تحديد الخطوة العسكرية القادمة في سبيل تحقيق المصالح الاستعمارية في المنطقة.
لذا، ظلت 'الهيمنة' مصطلحاً أساسياً واضحاً أو مستتراً أثناء الحديث عن علاقة الغرب بالشرق أو عن الشرق وحده، لا من حيث الهيمنة العسكرية فحسب، بل من حيث الهيمنة الرمزية والمعرفية التي ينطلق منها المستشرقين في قراءاتهم، القراءات التي أتت بعين القوة لا بعين المعرفة.
وفي كتابته حول الاستشراق، يقول الأكاديمي الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد أن: ' الاستشراق يمكن أن يُناقَش ويُحَلَّل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، التعامل معه بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه. بالمختصر، الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته، وامتلاك السيادة عليه.'
مشهد استشراقي في منتدى أنطاليا الدبلوماسي
أطل علينا الأكاديمي والاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس خلال إحدى جلسات المنتدى والتي حملت عنوان 'سوريا بين إعادة البناء وإعادة الوفاق'، متحدثاً عن الدور الأمريكي الإسرائيلي السلبي في ستِّ دول عربية هي سوريا، العراق، لبنان، السودان، ليبيا، والصومال. مخبراً إيانا أن ما حدث في تلك الدول خلال السنوات الأخيرة جاء من فكرة أمريكية-إسرائيلية لإعادة تشكيل الأنظمة باختيار أمريكي بحت.
وبما أن الندوة حول سوريا، فقد خصّها بالحديث قائلاً: أن قرار إسقاط الأسد لم يكن قراراً سورياً شعبياً بسبب قمع النظام، بل قراراً أمريكياً لإسقاط أي 'حكومة معارضة لإسرائيل' وهو ما أدى لوقوع آلاف الضحايا، محمّلاً مسؤولية ذلك للولايات المتحدة الأمريكية.
صورة القوى العظمى بين المركزية واللانهزامية
بالرغم من أن ساكس اتخذ في الجلسة السابقة موقفاً نقدياً من سياسات حكومته، إلا أن المفارقة تكمن في أنه أعاد إنتاج النزعة المركزية الأمريكية، جاعلاً منها المحرك الأساسي والوحيد في سردية تاريخ ستّ شعوب. ولم يرَ في هذه المقاربة ما يدعو للاستغراب، بل قدّمها بثقة واضحة، متغاضياً عن السياقات المتعددة والتفاعلات المعقدة التي شهدتها تلك الدول خلال العقدين الأخيرين. وهذا ما يجعل تناول متغيراتها من زاوية المركزية الأمريكية أمراً مستهجناً، بل ويبدو لنا – نحن أبناء المنطقة الذين عايشنا هذه التحولات يومياً – خطاباً فوضوياً لا يعكس الواقع ولا ينصف التجربة.
وفي انعكاس آخر لصورة القوى العظمة في السرديات الاستشراقية تنقل الكاتبة والأكاديمية المصرية رضوى عاشور في أحد مقالاتها مقارنة إدوارد سعيد بين فوكو وفانون، الكاتبان اللذان يشتركان في كشف أساليب الإقصاء والتقييد في الحضارة الغربية. غير أن سعيد يأخذ على فوكو أن نقده للمؤسسات الغربية (المصحة والمستشفى والسجن والجامعة والجيش... إلخ) رغم ما يحمله من نقد، ينتهي إلى نوع من الانهزامية والمسالمة،
حيث لا يتيح سوى هامش ضئيل جداً للمقاومة؛ إذ يرى فوكو أن كل شيء محتوم تاريخياً. أما فانون، فإن إنتاجه الفكري يقوم على الإيمان بإمكانية إحداث تغيير تاريخي، وعلى يقين بقدرة المضطهدين على التحرر من مضطهديهم. وهنا يتجلى الفارق الجوهري بين الاستسلام للمركز، وبين الاعتراف بالقدرة على التحرر وفاعلية المضطَّهدين أو المستعمَرين.
من عربة البوعزيزي إلى جدران درعا..الثورات من الداخل
قبل الحديث عن سوريا التي انطلقت ثورتها في آذار 2011، تجاهل جيفري ساكس الإشارة إلى المناخ العام الذي كان سائداً في المنطقة في تلك المرحلة، أي إلى اللحظة المفصلية التي أشعلت شرارة الربيع العربي، حين أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده في ديسمبر 2010، احتجاجاً على مصادرة البلدية لمصدر رزقه الوحيد، والذي كان عبارة عن عربة يبيع عليها الخضراوات والفواكة. أعقب ذلك اندلاع انتفاضة شعبية أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في تونس. لقد كانت تلك لحظة تفاعل داخلي خالص أفضى إلى ثورة، لا قراراً أمريكياً نفّذه مواطن عربي.
تصف رضوى عاشور تلك اللحظة قائلة : 'ولأن البوعزيزي يشبه آلاف الشباب العرب في فقره وقهره وغلبه ومهانته وسمرة وجهه وخشونة شعره ونحول جسمه، أدرجوه بسرعة مدهشة في حكايتهم. ولما خرج أهل تونس إلى الشوارع يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام، تبعهم المصريون بعد أيام معدودة يرفعون الشعار نفسه، ثم كالسائل في الأواني المستطرقة انتقلت الرسالة من بلد إلى بلد'. انطلقت الثورة المصرية في يناير 2011 وأطاحت بنظام حسني مبارك. وهي أيضاً لحظة تاريخية أغفل ساكس الحديث عنها مع أنه لا يمكن إغفال دولة كمصر، عن المناخ العربي.
وكانت الثورة المصرية حالة شعبية نظمها الشباب قبل غيرهم، حيث بدأت الدعوات عبر الفيسبوك للاحتجاج والمطالبة ب 'العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية' والحقيقة أن القلق والتخبط الإسرائيلي الكبير نتيجة هذه الثورة أي نتيجة قرار شعب عربيّ من جديد، كان جلياً.
فقد ذكر الباحث صالح النعامي في دراسته المنشورة بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان 'إسرائيل وفزاعة الإسلاميين في أعقاب الثورات العربية' أن نتنياهو أقام في ديوانه خلية عمل أواخر كانون الثاني/ يناير ۲۰۱۱ بهدف تنظيم حملة سياسية لإقناع دول العالم بعدم السماح بخلع مبارك كونه حليفاً حيوياً الإسرائيل وكون هناك مخاطر تتربص باتفاقية كامب ديفيد في حال تنحيه. عدا عن القلق النخبوي الإسرائيلي الذي انفجر في تلك الفترة في الإعلام محذراً العالم من مخاطر سيطرة الإسلاميين بعد الثورة، رغم أنه بدا واضحاً وبحسب الدراسة نفسها أن إسرائيل تخشى فقدان مزايا الأنظمة الدكتاتورية التي ترتبط بها في العالم العربي لا أكثر.
بعد مصر، اندلعت الاحتجاجات في اليمن في 11 شباط 2011وتنحى علي عبدالله صالح. تبعت ليبيا والبحرين اليمن بعد أيام وسقط نظام معمر القذافي أيضاً وإن كان الناتو قد تدخل بعد استخدام القذافي للقوة المفرطة، إلا أن الحالة الليبية بدأت في النهاية باحتجاجات شعبية متأثرة بالمناخ العربي.
الآن يمكننا أن نصل للحديث عن سوريا ، تقول الباحثة والناشطة السياسية سهير الأتاسي في شهادتها الشخصية حول بداية الثورة السورية في الفيلم الوثائقي خلية الأزمة أن الحراك السوري بدأ من خلال الاعتصامات التي أرادت التعبير عن التضامن مع ثورات الربيع العربي بدءاً من مصر واستمراراً بتونس ومن ثم ليبيا وكانت بدورها مشارِكة في اعتصام السفارة الليبية في دمشق يوم 22 شباط 2011. وتشير الأتاسي إلى أنهم بدأوا بالتدريج بتحويل بوصلة هذه الاعتصامات من مجرد تضامن مع الثورات العربية إلى التركيز على القضايا السورية. لقد توسعت الهتافات في سوريا أو 'الدولة المتوحشة' كما يسميها ميشيل سورا، ووصلت حدّ ترديد جملة 'خاين الي بيقمع شعبه'و 'خاين الي بيسرق شعبه' ف تبِعها هجوم من عناصر الأمن واعتقالات، حسب شهادة الأتاسي. وفي نهاية الشهر نفسه كتب أطفال من درعا عبارات 'الشعب يريد إسقاط النظام' و 'إجاك الدور يا دكتور' .
وليس هذا هو المجال للخوض في الأحداث التي تلت تلك اللحظات، فهي أصبحت موثّقة بقدر ما هي معروفة، لكن ما يجب التوقف عنده هو أن هذه التفاعلات العربية، التي عبّر عنها أبناؤها وبناتها بأصواتهم، تؤكد محلية القرار الثوري وخصوصيته لدى الشعوب، كما تؤكد قدرتهم على التفكير والاختيار، وعلى استعادة فاعليتهم ووجودهم السياسي إلى درجة الانخراط الكامل فيه، وإعلان الثورة على أنظمة استبدادية استمرت لعقود. غير أن إعادة تأطير هذه الثورات بوصفها 'صناعة خارجية' يحوّل هذه اللحظة من فعل حر إلى نتيجة مدبّرة، ويعيد الشعب العربي إلى موقعه التقليدي في القراءة الاستشراقية: مفعولاً به، لا فاعلاً.
سردية القوة العظمى في سوريا تمحو أي ارتجاف تحقق بسبب قرار الشعب
رصد الباحث صالح النعامي في موقع الجزيرة نت الموقف الإسرائيلي من الأسد في أعقاب الثورة السورية وجاء في التقرير أنه في بداية الثورة السورية، اختلفت الآراء في إسرائيل حول الموقف الأفضل لها؛ فبينما رأى البعض أن إسقاط الأسد يخدم مصالحها بسبب تحالفه مع حزب الله، فضّل آخرون بقاء النظام حفاظاً على استقرار استراتيجي، لأن هناك مخاوف من سيطرة جماعات إسلامية على الحكم إن سقط. فقد اعتبر هؤلاء أن انتصار هذه الجماعات سيكون أكثر كلفة لإسرائيل من بقاء النظام وحزب الله، على اعتبار أن الجماعات الإسلامية غير قابلة للردع، في حين أن نظام الأسد وحزب الله ثبت أن بالإمكان ردعهما. لكن الموقف الإسرائيلي تغيّر بوضوح بعد الاتفاق الروسي الأميركي الذي أفضى إلى تدمير السلاح الكيميائي لدى الأسد عام 2015 حيث ساد بعده إجماع في تل أبيب على تفضيل بقاء الأسد.
كذلك كشف المقال الذي كتبه روبرت فورد السفير الأميركي في سوريا خلال أولى سنوات الثورة، عن تردد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة أوباما في اتخاذ قرار حاسم تجاه نظام الأسد حتى بعد تجاوزه 'الخط الأحمر' واستخدمه للسلاح الكيماوي لقصف المدنيين. واختارت في النهاية حلاً دبلوماسياً من خلال الاتفاق مع روسيا يجنبها التدخل المباشر وخلْق فوضى في سوريا قد تجرّها لاستنزاف جديد على غرار فيتنام وأفغانستان والعراق.
إذاً، في القراءة حول التعامل الأمريكي الإسرائيلي بعيد انطلاق الثورة السورية نجد أن التخبّط هو السمة الأبرز في التعامل مع الملف، وهذا يعكس حقيقة أن ما حصل كان قراراً شعبياً أجبر أمريكا وإسرائيل على البحث عن طرق للتعامل معه وترويضه لا العكس كما جاء في طرح جيفري ساكس. أي أن المركزية في الحقيقة كانت عند حناجر الشعب التي ثارت وعند يده التي حملت أغصان الأشجار في البداية تعبيراً عن الثورة نعم لكن الثورة السلمية، والتي حملت السلاح فيما بعد للدفاع عن نفسها وعن الشعب ضد قمع النظام.
نحو خطاب مختلف
الخطاب الغربي تجاه الشرق، حتى في أشكاله النقدية، يحتاج إلى إعادة نظر، إذا أراد حقًا أن يقف إلى جانب الشعوب لا فوقها، والتعامل معها بوصفها ذاتاً قادرة على التفكير أو التعبير وليس ككائن يحتاج دائماً إلى تفسير وتوجيه خارجي .
بالتالي، إذا أردنا بناء خطاب نقدي حقيقي، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للشعوب كذوات فاعلة، لا مجرد نتائج في معادلات القوى الدولية. وهذا لا يعني نفي التدخلات الخارجية أو تجاهل الأدوار الإمبريالية خلال الربيع العربي خاصة، بل يعني إدراك أن هذه القوى تتفاعل مع واقع موجود، لم تصنعه من فراغ ولم تفرضه كما تشاء. الاعتراف بالمواقف والفاعلية السياسية والتاريخية والاجتماعية للشعوب هو شرط أساسي للتعامل مع تاريخها وحاضرها ومستقبلها.
في النهاية، أكتب هذه الدعوة لخطاب مختلف بخط وحروف عربيّة وأتقفى أثر رضوى عاشور حين كتبت رسالة إلى أوروبا بهذه الللغة داعية إياها لحوار وتواصل نديّ مع العرب، حوار يعني حضور الجانبين، كل بتجربته وحكايته وخصوصيته، أي بكامل محموله التاريخي. لأنه وكما تقول، لا يجوز الحوار بين ظاهر وخفي، بين موجود وغائب، بين سيّد مسلح بالعمى ومسود مغيّب، ملغي من الحساب.