اخبار سوريا
موقع كل يوم -الوكالة العربية السورية للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
حماة-سانا
بينما يواصل نهر العاصي مسيره عبر مدينة حماة، لم يعد ذلك الشريان الحيوي يروي قصة جمال وتاريخ، بل أصبح شاهداً على أزمة بيئية تتفاقم بصمت.
من ضفاف النواعير العتيقة إلى جسر باب النهر، يرصد هذا التحقيق واقع التلوث المتزايد، والانهيار التدريجي لمعالم المدينة، وسط جهود محلية متعثرة.
من رمز حضاري إلى مجرى نفايات
لطالما ارتبط اسم حماة بنهر العاصي، الذي يحضن النواعير الخشبية ويمنح المدينة هوية فريدة، لكنه اليوم لم يعد كما كان، تقول السيدة أم باسل، وهي من سكان حي باب النهر:
'كنا نجي نتمشى جنب النواعير، اليوم ما فينا نقرب من الريحة… النهر صار مصدر مرض مو جمال'.
ما ترصده العين المجردة لا يكذب
مياه راكدة داكنة، انتشار للذباب والحشرات، وروائح كريهة تختنق منها الأزقة المجاورة. السبب.. تصريف مباشر لمياه الصرف الصحي في مجرى النهر، دون أي معالجة أو فصل.
زيارات شكلية وخطط غائبة
رغم الإعلان عن حملة تنظيف تحت عنوان 'حماة تنبض من جديد'، إلا أن الحملة اقتصرت على إزالة الحواجز الإسمنتية وتنظيف سطحي للمجرى، دون أن تمسّ جوهر المشكلة، يقول عبد الحميد خالد، ممثل منظمة 'رحمة بلا حدود':
'دون تحويل مجرى الصرف، كل التنظيف ليس له معنى… القاع ممتلئ بترسبات سامة'.
وبالفعل، ترصد الصور الفضائية وتحليلات ميدانية وجود رواسب سميكة تصل إلى ثلاثة أمتار، تضم نفايات منزلية وصناعية ومخلفات عضوية، ما يهدد بانبعاث غازات ملوّثة وانتشار أمراض تنفسية وجلدية.
انهيار صامت للمعالم التاريخية
إلى جانب التلوث البيئي، يهدد تراجع مستوى المياه الأساسات الحجرية للنواعير التاريخية والجسور، المهندس أنس المنجد، من سكان المنطقة، يكشف:
'النواعير القديمة تتفكك من دون صيانة… جسر باب النهر انكشفت أساساته بعد تخفيض المياه، وقد ينهار بأي لحظة'.
هذه المعالم ليست مجرد رموز سياحية، بل إرث عمراني وثقافي يعود لمئات السنين، ويمثل روح المدينة وذاكرتها الجماعية، وأي فقد لها يعني بتر جزء من هوية حماة.
التقنيات متقادمة… والتمويل غائب
في جولة ضمن مكتب الخدمات البلدية، تبين أن المعدات المستخدمة لتنظيف النهر تعود لأكثر من عشر سنوات، وتعاني من أعطال متكررة، أحد الفنيين، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أشار إلى أن 'كل يوم يتوقف جهاز، والمضخات ما بتكفي… شغالين على الحد الأدنى، بدون قطع غيار ولا دعم'.
ورغم إدخال حاويات جديدة 'ذكية' إلى المدينة، إلا أن معالجة مصدر التلوث الأساسي – شبكة الصرف الصحي – لم تبدأ بعد، لا تخطيطاً ولا تنفيذاً.
المواطن شريك مهم… مغيّب
من خلال مقابلات مع السكان المحليين، برزت حالة من الإحباط والغضب، لكن هناك أيضاً استعداد للتعاون والمراقبة المجتمعية، فمعظم من استُطلعت آراؤهم يطالبون بحلول واقعية، ويعرضون استعدادهم للإبلاغ والمتابعة، وحتى تنظيم فرق تنظيف شعبية.
إشراك المواطنين في رقابة بيئية يومية قد يكون أحد الحلول الفعالة، وخاصةً في ظل ضعف الرقابة الحكومية وتقادم الأدوات.
هل هناك أمل؟
رغم الصورة القاتمة، ما زال هناك بصيص أمل، فالنهر لم يجف، والنواعير لم تسقط كلياً، والمجتمع المحلي ما زال حياً ومستعداً للمساهمة. لكن هذا الأمل يحتاج إلى:
تحويل عاجل لمجرى الصرف الصحي خارج النهر، بعيداً عن الأحياء السكنية.
تدعيم وصيانة الجسور والنواعير الأثرية بشكل ممنهج وبالتعاون مع مديرية الآثار.
تأمين دعم مالي وتقني للمعدات البلدية وتدريب الكوادر على أساليب التنظيف الحديثة.
إطلاق منصة رقمية تفاعلية تتيح للمواطنين الإبلاغ والمشاركة بالرأي.
نهر العاصي في حماة ليس مجرد مجرى مائي، بل شريان حياة ورمز حضاري، إنقاذه مسؤولية جماعية، تبدأ بإرادة سياسية جادة، وتمتد إلى وعي مجتمعي وعمليات ميدانية حقيقية، فلا يمكن للمدينة أن تنبض، إن كان نهرها يختنق كل يوم.