اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١ أيلول ٢٠٢٥
خالد بن علي المطرفي
يمكن إدراج «الغموض الاستراتيجي» كأداة ضمن منظومة الردع العامة التي تعتمد على مزيج من التوازن العسكري، والإشارات المكلفة، والسلوك التفاوضي، والسمعة، وحجم المصالح المرتبطة بالتهديد، وتكمن القيمة المضافة للمفهوم في تحقيق توازن دقيق بين الوضوح الضروري لضمان مصداقية التهديد، والغموض المقصود الذي يمنح صانع القرار مساحة أوسع للحركة..
تناولت ورقة بول ك. هوث المنشورة في المراجعات السنوية للعلوم السياسية عام 1999 موضوع فاعلية التهديدات العسكرية كوسيلة لردع الأزمات والحروب العابرة للحدود، وهو أحد الموضوعات المحورية في أبحاث العلاقات الدولية، منطلقًا هوث من نماذج الاختيار العقلاني كأساس نظري لدراسة الظروف التي يُتوقع أن ينجح أو يفشل فيها الردع التقليدي.
حدد بول ك. هوث أربع مجموعات رئيسة من المتغيرات التي تؤثر في مخرجات الردع، وهي: توازن القوى العسكرية بين الأطراف، والإشارات المكلفة وسلوك التفاوض، والسمعة ومدى الاستعداد لاستخدام القوة، إضافة إلى أهمية المصالح المعنية.
وخلال العقدين السابقين لنشر الدراسة، اختبر الباحثون فرضيات مستمدة من هذه النظرية باستخدام أساليب إحصائية ودراسات حالة مقارنة، حيث دعمت النتائج بعض الفرضيات، وأثارت تحديات أمام أخرى، مما فتح نقاشات عميقة حول متانة النظرية وصلاحية تصميمات البحث التجريبي.
ويُعرّف 'الغموض الاستراتيجي' أنه غياب الالتزامات الصريحة من الدولة نحو رد محدد على تهديدات محتملة، مع ترك النيات غير معلنة لإحداث حالة من عدم اليقين لدى الخصم، ويهدف هذا الأسلوب إلى تحقيق غايتين أساسيتين، (الأولى) تعزيز الردع من خلال خلق مخاوف قائمة على غموض الرد، بحيث يتجنب الخصم اتخاذ خطوات تصعيدية خشية عواقب غير متوقعة، و(الثانية) الحفاظ على مرونة الخيارات الاستراتيجية، مما يسمح بالاستجابة للتهديدات بشكل متغير وغير تقليدي وفق المستجدات.
وفي هذا الإطار، يصبح 'الغموض الاستراتيجي' وسيلة لتوجيه الخصم إلى الاستنتاج أن دوافع ونيات دولة ما تكون غير متوقعة وغير واضحة، ما يمنحها قدرة أكبر على التكيف مع المتغيرات، دون أن تكشف أوراقها، ويمكن مُلاحظة ذلك بشكل بارز في السياسات الغربية، وعلى رأسها السياسة الأميركية، تجاه عدد من الملفات الدولية الحساسة، ففي التعامل مع بعض الأزمات مثل البرنامج النووي الإيراني أو الانتشار العسكري في شرق آسيا وأوروبا الشرقية، غالبًا ما تتجنب واشنطن وشركاؤها إصدار تهديدات واضحة أو تحديد خطوط حمراء صريحة، وتبقي باب الردود مفتوحًا على مصراعيه –بما في ذلك الرد العسكري– دون تصريح مباشر.
تطبيق هذا النهج يمنح الدول مزايا استراتيجية بارزة، فهو يتيح توجيه الرسائل دون الوقوع في فخ التزامات لا يمكن التراجع عنها، ويسمح بمواكبة التطورات الديناميكية في بيئة التهديدات، ويحافظ على عنصر المفاجأة والردع النفسي في عقل الخصم.
وفي ضوء إطار بول هوث النظري، يمكن إدراج 'الغموض الاستراتيجي' كأداة ضمن منظومة الردع العامة التي تعتمد على مزيج من التوازن العسكري، والإشارات المكلفة، والسلوك التفاوضي، والسمعة، وحجم المصالح المرتبطة بالتهديد، وتكمن القيمة المضافة للمفهوم في تحقيق توازن دقيق بين الوضوح الضروري لضمان مصداقية التهديد، والغموض المقصود الذي يمنح صانع القرار مساحة أوسع للحركة، وأكدت الدراسات اللاحقة، مثل أبحاث كيتلين تالمادج (2017) وأعمال توماس شيلينغ التي أعيدت قراءتها في سياق ما بعد الحرب الباردة، أن المفهوم يكون في بعض الحالات أكثر فاعلية من الوضوح الكامل، خاصة في النزاعات ذات التوازن الحساس للقوى أو القضايا التي تتداخل فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
في المقابل، تحذر بعض الأدبيات الحديثة في دوريات مثل International Security وJournal of Strategic Studies من أن الإفراط في الغموض قد يقوض الردع إذا لم يكن مدعومًا بقدرات حقيقية وإشارات متسقة، وهو ما ينسجم مع رؤية هوث التي تشدد على أن الردع الناجح يتطلب إشارات مدروسة مدعومة بمقومات قوة واقعية.
وبذلك، يمكن القول: إن الجمع بين المنهجية التجريبية التي اعتمدها هوث ومفهوم 'الغموض الاستراتيجي' المعاصر، يقدم إطارًا تحليليًا متكاملًا لفهم كيفية بناء سياسات ردع فعالة في بيئة دولية معقدة، فالردع الناجح، فن صياغة الرسائل بطريقة متوازنة بين الوضوح والغموض، بما يحقق أقصى تأثير في سلوك الخصم، ويمنح الدولة مرونة تكيفية عالية، وهو ما يجعل التحكم في إدراك الخصم أحيانًا أقوى من التحكم في ميدان المعركة نفسه.. دمتم بخير.