اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة الوئام الالكترونية
نشر بتاريخ: ١٧ أيار ٢٠٢٥
في أعالي جبال الجنوب الغربي للمملكة، حيث الضباب يلف القمم والنسيم يحمل رائحة الأرض القديمة، تقف أشجار العرعر شامخة كما كانت منذ قرون، شاهدة على تراث طبيعي وثقافي فريد، ومكوّن بيئي أصيل للمرتفعات السعودية.
اليوم، تقود المملكة العربية السعودية جهودًا وطنية حثيثة لإحياء هذه الغابات القديمة، في محاولة لعكس آثار عقود من التدهور البيئي، ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز التنوع البيولوجي ومواجهة تحديات تغيّر المناخ.
موائل نادرة تحتضن التنوع البيولوجي
تنتشر غابات العرعر بين ارتفاعات تتراوح ما بين 2,500 و3,000 متر فوق سطح البحر، في مناطق مثل الطائف، والباحة، وعسير، وتُعد هذه الأشجار دائمة الخضرة بقايا حيّة من غابات أفرو-جبلية كانت تمتد عبر شبه الجزيرة العربية.
تقول ليوبوف كوبيك، الاستشارية البيئية لدى 'تيرا نيكسوس': 'لقد خلقت أشجار العرعر مناخًا دقيقًا وفريدًا في بيئة تهيمن عليها النظم الجافة وشبه الجافة، مثل الصحارى والجبال والهضاب'.
وتضيف كوبيك أن هذه الغابات تُعدّ 'نقاطًا ساخنة للتنوع البيولوجي' إذ تؤوي آلاف الأنواع من النباتات والأحياء، بما فيها فصائل نادرة ومهددة بالانقراض، مثل النمر العربي، والرباح، وعقعق عسير.
دور بيئي محوري.. وثقافة متجذّرة
إلى جانب دورها البيئي في تثبيت التربة ومنع الانجراف وتوفير المأوى والغذاء للحياة البرية، تلعب أشجار العرعر دورًا ثقافيًا عميقًا، إذ استخدمها السكان المحليون في صناعة الأدوات والمستلزمات المنزلية، فيما تُستخدم ثمارها في الطب الشعبي لعلاج نزلات البرد ومشاكل المعدة، ويُستخلص من زيتها عطر طبيعي يدخل في صناعة العطور والصابون.
وتوضح كوبيك أن كثافة الظل التي توفرها أشجار العرعر تُسهم في تقليل التبخّر واعتدال درجات الحرارة، مضيفة: 'جبال عسير، بخلاف معظم مناطق المملكة، تستقبل كميات أمطار مرتفعة نسبيًا، خاصة في موسم الرياح الموسمية الصيفية، ما يدعم تنوعًا نباتيًا من غابات السنط في السفوح، إلى غابات العرعر الأكثر رطوبة في المرتفعات'.
تهديدات متراكمة.. وتدخل عاجل
لكن هذا النظام البيئي الفريد يواجه تحديات خطيرة. فالتغير المناخي أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة وتراجع معدلات الأمطار، ما أعاق نمو الشتلات الجديدة وأضعف دورة التجدد الطبيعي للأشجار.
وتضيف كوبيك: 'مواسم الجفاف الطويلة والعواصف الشديدة تعرقل قدرة الشتلات الصغيرة على الاستقرار، مقارنة بالأشجار الناضجة، مما يهدد استمرارية الغابات'.
ولا يقتصر الخطر على المناخ فقط، بل يفاقمه الرعي الجائر وتوسع التنمية العمرانية، حيث تقوم الماشية – خصوصًا الأغنام والماعز – بدهس الشتلات قبل أن تنمو.
السعودية تتحرك.. مشاريع ضخمة للتجدد البيئي
استجابة لهذه التهديدات، أطلقت شركة 'سودة للتطوير' – التابعة لصندوق الاستثمارات العامة – حملة تشجير واسعة النطاق، زرعت خلالها نحو 165 ألف شجرة محلية، منها كميات كبيرة من العرعر، ضمن المرتفعات الجنوبية.
وتقول كوبيك إن حديقة عسير الوطنية، التي تأسست في ثمانينات القرن الماضي، تمثل اليوم 'منطقة محمية رئيسية' تركز على الحفاظ على غابات العرعر، حيث جرى تقييد الرعي والتوسع العمراني وقطع الأشجار، مع تنفيذ تدابير لحماية الشتلات من الدهس والتلف.
وتعاونت الجهات البيئية في المملكة، مثل المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، في تنفيذ مبادرات ترميم واسعة تشمل تسييج مناطق التجدد الطبيعي، ورصد صحة الأشجار، وتحديد المناطق الحساسة.
العرعر.. من شجرة منسية إلى رمز للنهضة البيئية
اليوم، تعود أشجار العرعر لتحتل مكانتها في صدارة جهود المملكة نحو الاستدامة، ليس فقط كعنصر بيئي، بل كرمز للارتباط العميق بين الطبيعة والهوية السعودية.
وبينما تُحيي المملكة غاباتها الجبلية القديمة، فإنها لا تحمي فقط إرثها الطبيعي الثمين، بل تبث الحياة من جديد في جبالها الخضراء الأكثر سحرًا وثراءً.