اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٢ أيلول ٢٠٢٥
د. نجوى الكحلوت
كما يتحتم على الإنسان أن يحافظ على لياقته الجسدية التي تعينه على الحركة، ولياقته النفسية التي تجمّل سلوكه واتزانه، كذلك عليه أن يعتني بلياقته اللغوية؛ تلك الملكة الخفية التي تمنحه القدرة على اختيار الكلمة في وقتها، ووضع العبارة في مقامها، فينجو بها من مآزق المواقف الصعبة، ويصنع بها لنفسه حضورًا مختلفًا، ووقعًا خاصًّا في القلوب.
اللياقة اللغوية منظومة تجمع بين ثراء في المفردات، والقدرة على تنميق الجُمل، بحسٍّ راقٍ يوازن بين صدق المعنى وجمال المبنى، وبين حرارة اللحظة وهدوء التعبير. إنها فنّ الإصغاء قبل الكلام، والتفكّر قبل الإجابة، والتعبير بأدنى الألفاظ وأعمقها، بحيث تصل الرسالة بلا جرح، وتُقنع بلا استعلاء، وتؤثّر بلا ضجيج.
ولأن اللغة هي مرآة الفكر، فإن اللياقة اللغوية تكشف عن سعة العقل، ورحابة الصدر، وذكاء التعامل. فكم من كلمة عابرة فتحت باب صداقة، وكم من عبارة محسوبة أطفأت فتيل خصومة، وكم من خطاب متزن غيّر مصير اجتماع أو صفقة أو حتى علاقة إنسانية.
إن المتقن لياقته اللغوية يملك سلاحًا ناعمًا يُحدث أثرًا عميقًا؛ فهو يُشعر من أمامه بالاحترام، ويمهّد لجسور الثقة، ويمنح ذاته مكانةً رفيعة دون طلب ولا تصنّع. وهذه اللياقة لا تولد فجأة، بل تُبنى مع الأيام بالتثقّف، والقراءة، والتدرّب على حسن البيان، وحراسة اللسان، وإدراك أن الكلمة قد تكون أحيانًا أثقل من الحجر وأبلغ من ألف حركة.
فالاعتناء باللياقة اللغوية من كمال المروءة، وتمام الحكمة، وعنوانُ الذكاء الاجتماعي والفكري معًا. فمن امتلك لسانًا رشيقًا، وعقلاً حاضرًا، ووجدانًا رحيمًا، صارت كلماته مفاتيح قلوب، وجسور تفاهم، وأدوات تأثير تسبق صورته، وتخلّد أثره.
ولصقل اللياقة اللغوية علينا الإكثار من القراءة الواعية للنصوص الرفيعة؛ فهي تُنمّي الذائقة وتُثري القاموس العقلي والوجداني. ثم التمرّن على الإصغاء الجيد؛ فالفهم العميق يسبق التعبير المتزن. يرافق ذلك الحرص على التمهّل قبل الرد؛ فثانية صمت قد تمنح الكلمة وزنها. وتجنّب الكلمات الجارحة ولو في أشد المواقف؛ فالقوة الحقيقية في ضبط العبارة لا في شدّتها. وأخيرا مراقبة أثر الكلمات على الآخرين؛ فالكلمة التي لا تُصلح، لا تستحق أن تُقال.