اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة سوا الإخبارية
نشر بتاريخ: ٢٩ أيار ٢٠٢٥
في حي 'التفاح' شرق مدينة غزة ، كان محمد خالد الذي يبلغ من العمر (36 عاما) ي فتح باب صالونه كل صباح بابتسامة واثقة. الجدران نظيفة، الأدوات مرتبة بعناية، ورائحة العطور تعبق في المكان. كانت الزبائن تعرفه من بعيد، 'محمد الحلاق'، صاحب اليد الخفيفة والحديث اللبق. لم يكن صالونه مجرد مكان للحلاقة؛ بل مجلسا صغيرا للحديث، للضحك، ولنسيان الهموم. هناك، مرت أعراس ومناسبات وأحاديث السياسة والرياضة، وكان محمد حاضرا دوما بابتسامة وعبارة لطيفة.
اليوم، لا جدران، ولا مرايا، ولا حتى سقف. محمد يتخذ من الرصيف صالونا للحلاقة، تحت ظل خيمة بلاستيكية مهترئة قرب شارع مزدحم.
طاولة خشبية قديمة، وكرسي حلاقة خلع من صالونه المدمر، هما كل ما تبقى من فخامته السابقة. يقول بابتسامة باهتة: ' زمان كنت أرتب الزبون، اليوم بجر الكرسي عالرصيف قبل ما أبدأ. الشغل هو هو، بس المكان هو اللي اختلف'.
حين دمرت الغارات منزله وصالونه في الحي، نزح محمد مع أسرته إلى منطقة أكثر أمانا، أو هكذا ظن. حمل زوجته وأطفاله الثلاثة، وبقي أسبوعين دون دخل، دون فكرة، دون حيلة. 'كنت صاحي وببكي من غير ما يحسوا في. مش لأني ضعيف، بس لأني عاجز'. ثم قرر أن لا يجلس مكتوف الأيدي. يقول وهو يرتب شفرة الحلاقة فوق قطعة قماش مطهرة 'المهنة بإيدي، والناس محتاجة تحلق، وأنا محتاج أطعم أولادي'.
اختار زاوية قريبة من السوق الشعبي، حيث الحركة لا تتوقف. الزبائن، على اختلافهم، يأتون ليحلقوا شعورهم، ويتركوا شيئا من تعبهم عند محمد. بعضهم لا يدفع، فيغادر بخجل، فيبتسم محمد ويقول: 'نصيبي اليوم راح، بكرا الله ببعت'. وفي بعض الأيام، يكتفي بقصات معدودة، لكنه يعتبرها انتصارا صغيرا على واقع كبير.
لا يملك محمد مولدا كهربائيا، ولا أدوات تعقيم حديثة، لكنه يحرص على نظافة شديدة، قدر استطاعته. يغلي الماء، يطهر الأدوات بالكلور، ويحاول أن يخلق مساحة آمنة وسط الفوضى. 'أنا مش بس بحلق، بحاول أرجع للناس إحساسهم بالكرامة. الراحة النفسية تبدأ لما الواحد يشوف حاله مرتب'.
تقاطعه أصوات الطائرات في السماء، فيصمت قليلا، ثم يواصل الحلاقة كأن شيئا لم يكن. يقول بهدوء 'تعودنا'. في بعض الأيام، يغلق مبكرا عندما تشتد وتيرة القصف. وفي أيام أخرى، يحلق حتى الغروب، على ضوء الشمس وحده. مرت عليه لحظات توقف قلبه من الخوف، لكنه لم يغادر. 'أنا هون، والناس كمان هون. وين نروح؟
زوجته، التي تجلس على بعد أمتار في الخيمة، تراقبه بفخر. تقول: 'محمد ما استسلم، حتى لما خسر كل شي. الشغل مش عيب، والرصيف أكرم من السؤال'.
وتضيف الزوجة بنبرة دافئة: 'أولادي بيسألوني: بابا راح يرجع المحل؟ بقولهم: بابا عم يبني محل جديد، بس مش من طوب.. من صبر'.
عندما نسأله عن أكثر اللحظات التي أثرت به، يذكر طفلا صغيرا جاء برفقة والده، يريد حلاقة شعره 'مثل قبل'، يوم عيد ميلاده. 'هو ناسي الحرب'، يقول محمد، 'بس أنا ما قدرت أرفض، خليته يفرح. حسيت إني رجعتله العيد، ولو بشي بسيط'.
في ركن من الرصيف، علق مرآة صغيرة على عمود كهرباء، يطل الزبائن منها على وجوههم بعد الحلاقة. يقول محمد: 'هاي المرايا أصغر من مرايا المحل، بس الناس بتشوف فيها حالها بأمل أكبر'.
في ظل الحرب، اختلطت المهنة بالرسالة، والبقاء بالكرامة. محمد لا يدعي البطولة، لكنه يمارسها يوميا. فهو لا يحمل سلاحا، بل مقصا ومشطا، ويخوض معركة من نوع آخر: أن يحفظ هيبة الإنسان في وقت كاد يفقد فيه كل شيء.