اخبار فلسطين
موقع كل يوم -شبكة قدس الإخبارية
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
شبكة قدس الإخبارية: حينما يقترب مقاتل، حافي القدمين، هزيل الجسد، يُلقي داخل دبابة أو ناقلة جند، عبوة من مسافة صفر، ثم ينسحب. وتعلو بعد ذلك صرخات الجنود 'إيما'، يعي نتنياهو وجيشه أن المهمة في غزة صعبة، بل صعبة جدا. ليس لأنها تملك سلاحا استراتيجيا، ولا لأنها أرض وعرة ومعقدة التضاريس، ولا لأن عمقها العربي والإسلامي يقف إلى جانبها بكل قوة بل بالعكس خذلها وتنازل عنها - إلا من رحم ربي - لصالح مشروع 'إسرائيل الكبرى'. وإنما لسبب واحد ووحيد، إنها أرض فيها رجال تربوا على عقيدة قتالية تحررية كتب أطرها وكل عناوينها، محمد الضيف، الرجل الذي رحل ظلّه قبل عام، وسيبقى أثره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وُلد محمد الضيف في خان يونس عام 1965، لاجئًا من بلدة 'القبيبة' التي هُجّرت قسرًا في نكبة 1948. حمل منذ الطفولة وعيًا مبكرًا بالقضية، وانتقل من مقاعد كلية العلوم في الجامعة الإسلامية إلى خنادق التدريب، ليتحول سريعًا إلى أحد المؤسسين الأوائل لجناح حركة 'حماس' العسكري، الذي سيتحول لاحقًا إلى 'كتائب الشهيد عز الدين القسام'. منذ بداية التسعينات، برز اسمه كعقل أمني وميداني يعمل في الظل، يخطط بصبر، وينفذ بإتقان، ويتوارى في لحظة الانفجار.
عُرف الضيف بقدرته الاستثنائية على التخفي والتخطيط، وبناء منظومة أمنية وعسكرية نادرة المثال، رغم تفوق الاحتلال في السلاح والتكنولوجيا. ومع كل محاولة اغتيال كانت تُنفّذ ضده — وبلغ عددها سبعًا موثقة، تركت على جسده آثارًا دائمة — كان يعود أقوى، أكثر شراسة، وأعمق حكمة. في واحدة منها، فقد زوجته وطفله ونجا هو، فازداد التصاقًا بفكرة المقاومة، لا انتقامًا، بل إيمانًا بأن الوطن لا يُستعاد إلا بالدماء لا بالبيانات.
لم يظهر محمد الضيف في تسجيل مصوَّر واضح منذ أكثر من عشرين عامًا، ولم يُعرف له صوت مسموع سوى في مناسبات نادرة ومختارة بعناية، لكنها كانت كافية لقلب موازين المشهد. صوته العميق، خطابه الهادئ والمقتضب، كانا رسالة مفادها أن وراء الظل عقلًا يدير المواجهة، يُراكم القوة، ويعرف متى يُشهرها.
معركة 'سيف القدس' عام 2021، و'طوفان الأقصى' في 7 أكتوبر 2023، كشفت حجم البصمة التي تركها الرجل في الميدان وفي وجدان الجيل الجديد. عقيدته القتالية لم تُورّث بالسلاح فقط، بل بالوعي، والانضباط، والقدرة على خلق توازن رعب مع جيش يُعدّ من بين الأكثر تسليحًا في العالم.
في يوليو 2024، أعلن الاحتلال أنه تمكّن أخيرًا من اغتيال محمد الضيف. لكن هذا لن يجعل 'إسرائيل' في مأمن. فالرجل، حتى في غيابه، حاضر. في تكتيكات المقاومة، في جرأة الأنفاق، في حنكة الكمائن، في وجوه أولئك الذين يُقاتلون حتى آخر رصاصة. إنه حاضر في الكتائب التي بناها من دعاء ودموع الأمهات، وصبر المحاصرين، ودماء الشهداء، باقية. جيش الظل الذي ربّاه لا يزال يُقاتل، يتسلل، يهاجم، ويأسر.
لم يكن الضيف شخصًا فقط، بل مدرسة كاملة في فنون حرب المستضعفين. رفض الانخراط في أية مشاريع سياسية أو تفاوضية، وظل يردد، حسب من نقلوا عنه، أن 'الميدان هو الذي يفرض الوقائع، لا الطاولة'. لم تُعرف له صورة حديثة، ولم يحمل لقبًا رسميًا في حركة حماس، لكنه كان الحاضر الدائم في كل قراراتها الكبرى المتعلقة بالمواجهة، التصعيد، أو التهدئة.
محمد الضيف لا يُودَّع. ليس لأنه اختار الغياب، بل لأنه علّم أجيالًا كيف يصير الغياب حضورًا، وكيف يتحوّل الرجل إلى فكرة، ثم إلى مدرسة، ثم إلى نهج. لم يكن مجرّد قائد ميداني، بل منارة لجيل آمن أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة النار، وأن تحرير فلسطين لن يأتي على يد الدبلوماسيين بل على كتف الفدائي الذي يعرف الطريق إلى فُوّهة البندقية. رحل الظل، نعم. لكن الضيف بقي، في دموع القدس، وفي عيون أطفال خان يونس، وفي هتاف الأنفاق: 'يا ضيف ارتاح ارتاح، بنكمّل كفاح!'