اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
في قلب الركام، حيث تسكن الكلمات بين الجراح، وُلدت قصيدة 'ألف طاغية ومدينة' من أنقاض الحرب والدم. لم تكن مجرد قصيدة، بل هي ديوان كامل نسجه الشاعر الغزي عادل الرمادي، وحمل بين سطوره وجع الإنسان، وغضب المدينة، وصرخة الروح في وجه القهر.
الرمادي (28 عامًا)، ابن حي الزيتون في مدينة غزة، أصيب في كلتا قدميه في مجزرة ارتكبها الاحتلال بحق مدنيين كانوا ينتظرون المساعدات، حين أُطلق الرصاص عليهم بشكل مباشر، فسقط شاعر الكلمة مضرجًا بالدم. أُجريت له عمليتان لتركيب بلاتين داخلي وخارجي، لكن الألم لم يكن في الجسد وحده، بل في فقدانه المؤقت القدرة على المشي، والحركة، وحتى الكتابة.
يقول بصوت أنهكه وجع الذكريات لـ 'فلسطين أون لاين': 'في سيارة الإسعاف، وأنا أنزف، لم أفكر في الموت بقدر ما كنت أحاول حفظ بيت شعر داهمني في لحظة اشتعال. شعرت أنهم لا يقتلونني فقط، بل يغتالون كلماتي.'
وفي طريقه إلى المستشفى، وبين النزف والصمت، خرجت من قلبه صرخة مغلّفة بالشعر:
'يريدونني بلا لحمٍ.. بلا شحمٍ.. بلا عظمٍ به أقفُ،
بلا كفٍ أمدده على حجرٍ فأغترف،
ومائي فوقه كفٌ، وهذا الفاهُ يرتشف،
وصوتي فوقه صوتٌ، وظلي فوقه ظل،
وجسدي حوله نار، وخلفي البحر يا ربي،
وكلُّ البرِّ مسمومٌ، فأين هناك أنصرف؟'
بعد المجزرة، كتب الرمادي ديوانه الكامل 'ألف طاغية ومدينة'، وهو أطول أعماله الشعرية، ونُشر لاحقًا في مصر بالتعاون مع دار ديوان العرب. الديوان ينبض بالألم، لكنه يصرخ للإنسان، ويخاطب الضمير العربي بلغة تمزج بين الحزن والثورة والرجاء.
يقول: 'كنت أردد دائمًا: بعضنا تسرقه الحرب، وبعضنا تخلقه. الحرب سرقت أطرافي، لكنها أعادت صياغة قصيدتي. كنت أكتب وأنا أتألم، لأن الكتابة عندي فعل مقاومة، وجرأة، لا مجرد كلمات مرتبة.'
ويضيف بألم عميق: 'نحن لا نفتقد فقط الطعام والدواء، بل نفتقد الاعتراف بنا كأصحاب طاقات تُغتال يوميًا بصمت. موهبتنا تُدفن قبل أن تولد، وأحلامنا تُمحى مع أول قذيفة.'
يصمت الرمادي قليلًا، كأن الكلمات تحتاج إذنًا للعبور من بين أنفاسه، ثم يتابع: 'لقد اغتالوا بيتي الذي كنت أكتب فيه، طاولتي، قلمي، والورقة التي كانت تحتضن أحلامي. كل ركن من زوايا المكان كان يشهد على نبضي... واليوم، لم يبقَ منه سوى الذاكرة.'
ويتابع بتحدٍ يعلو على الألم: 'كنت أحارب الظروف كما تحاربني. الجوع، والخوف، والفقد، والضجيج... كلها اصطدمت بي. حتى إصابتي المتكررة كانت ظرفًا ثقيلًا، لكن لم يهزمني شيء. كان قلمي من خشب، لكنه في عناده أصلب من الحديد.'
ثم بصوت مثقل بالوجع يضيف: 'أكلت الخبز الذي علاه العفن، كشطته عنه وأكلته. كنت سأتمزق جوعًا لو لم أفعل. لا طعام، ولا قدرة على الاحتمال. وبعد إصابتي، بقيت تسعة أشهر طريح الفراش، بلا غذاء جيد يبني العظام، ولا قدرة على الوقوف. حتى الألم بات رفيقًا دائمًا لا يغادر.'
ومن أكثر المشاهد ألمًا في ذاكرته، رؤيته لأوراقه وقد تناثرت بين ركام بيته بعد القصف. بعضها احترق، وبعضها تمزق. يقول: 'شعرت أنهم لم يقصفوا الحجارة فقط، بل قصفوا الكلمة والصوت والذاكرة. اغتالوا أبنائي، بل اغتالوني أنا. كانوا يحاولون اغتيال الثقافة نفسها.'
ويستذكر مشهدًا لم يغادر ذهنه: 'شاب يحترق أمام عينيّ إثر قصف مباشر، وفي تلك اللحظة دوّى بيت شعر في رأسي، ظللت أتمسك به كي لا أنساه: حطبٌ تُرمى حول جسمي… كي يزيدوا النار فيه.'
في غزة، حيث تتحوّل المآسي إلى ملهمات، لا يزال الرمادي، رغم الجراح، شاهدًا على ما تفعله الحرب بالموهبة، وكيف يمكن للقصيدة أن تكون صرخة في وجه البندقية.
ويختم حديثه بنبرة يعلوها الأمل رغم الجراح: 'أحلم أن أضيف للمكتبة العربية والعالمية شعرًا ونثرًا يثري العقول ويخدم الإنسان. أحلم أن أخدم وطني والإنسان خارج وطني... أحلم بالسفر لأُعرّف العالم على قضيتي، شعرًا، وأدبًا، وفكرًا.'