المحاريق يكتب: مقاربة أخرى تجاه مشكلة المخدرات .. ما بعد الحلول الأمنية

في خضم الحرب الأمنية على المخدرات، يتوارى الاعتراف الضروري بالمحركات الاجتماعية لهذه الظاهرة، أو تترامى إلى تفسيرات سهلة مثل البطالة حيث يوجد ارتباط واضح وصريح ولكنه غير كاف لتفسير الانتشار المخدرات بصورة واسعة نسبياً مؤخراً.

أضيفت كلمة نسبياً بسب أن المقارنة الجارية بين وضع الأردن حالياً، ووضعه سابقاً ليست منتجة، فهي تتجاهل النظر في وضع الأردن على خارطة المخدرات العالمية.

من ناطحات السحاب الزجاجية في وول ستريت إلى عشوائيات نيروبي تتمدد ظاهرة التعاطي، الفرق، أن أصحاب ربطات العنق الأنيقة في نيويورك يتعاطون الكوكايين فيخرجون بدرجة من النشوة تجعلهم أكثر مقاومة للضغوط وقدرة على المغامرة، أما المراهقين الأفارقة فيتحولون إلى قطعان من الزومبي تجوس في الشوارع.

توجد دول واقعية في تعاطيها مع الأمور، سويسرا وهولندا وغيرها دول اتخذت اجراءات تنظيمية تتعلق بتداول المخدرات وتعاطيها على أساس دراسة آثارها ونتائجها على العقل البشري، وفي المقابل، تفضل دول كثيرة ألا تخوض في ذلك بسبب أنها لا تمتلك من الأساس القدرات التنظيمية نفسها، كما وأنها تتعامل بتخوف مستمر مع المجتمعات التي تفضل أن تكنس جميع ظواهرها السلبية تحت السجادة، فتتحول المخالفات القانونية الفردية إلى منظمات إجرامية مع الوقت.

المشرعون في الدول العربية ينطلقون أساساً من مقولات (طوباوية) أي تستدعي رؤية المدينة الفاضلة، وتستغرق في قناعة كنتم خير أمة أخرجت للناس في غير سياقاتها، فتجعلها وعداً وراثياً مثل شعب الله المختار الذي يحكم الفكر اليهودي، ولذلك نمتلك إصراراً داخلياً عميقاً على عدم الاعتراف بالطبيعة الإنسانية في أمور كثيرة، وبالتالي، وضع القوانين التي من شأنها ألا تؤدي دوراً في احتواء الظاهرة.

الأزمة الأعمق، تتمثل في انفصال المشرع عن سياقات التطور التاريخي للظواهر، فالخمور مثلاً، التي تصنف بوصفها أكثر أنواع الإدمان شيوعاً وخطورة في أثرها على المجتمع، أبيحت في الدول العربية ونظمت بصورة واسعة لأنها كانت من منتجات الدول الاستعمارية، ومن أجل ذلك، تحركت هذه الدول لتجريم القنب أو الحشيش، من أجل إزاحته عن المنافسة مع منتجاتها، والتناقض يتمثل في استجابة المشرعين لإباحة الكحول وفي الوقت نفسه تجريم القنب!.

لنعد إلى الأردن، المشكلة التي تواجهنا لا تنحصر فقط في انتشار المخدرات، فهذه ظاهرة عالمية، ترتبط أصلاً بأنماط الحياة الحديثة، والتي يمكن لجيلي ممن تجاوزا الأربعينيات، وحققوا بعض الاستقرار، تجاوزها بطريقة أو بأخرى من خلال استثمار جهودهم الحياتية التي تراكمت في صورة أصول اقتصادية واجتماعية، أما الشاب العشريني فيعيش ظروفاً مختلفة، أنا لا أستطيع فهمه عادةً، وجميع نصائحي تبدو له استعلائية وفارغة.

المشكلة التي يمكن رصدها من خلال الجرائم المنتشرة وربطها بظاهرة المخدرات أن المخدرات التي تدخل إلى الأردن (مضروبة)! بمعنى أنها تصنع (تحت السلم) ويضاف من أجل تعزيز أثرها مواد كيميائية سيئة (المبيدات الحشرية)، وهو الأمر الذي يؤدي إلى العطب السريع للدماغ، خلافاً لمواد مخدرة أخرى، بقيت شائعة لعقود من الزمن، فمادة مثل LSD شكلت جزءاً من ذاكرة وأفكار ستيف جوبز الريادي النموذجي لجيل كامل، وكثير من المفكرين والمبدعين العرب تحدثوا عن الحشيش.

فيلم الكيف، أتى ليقدم مقاربة مهمة بخصوص فكرة المخدرات والتعاطي كانت تتمثل في دخول المادة السامة أو الضارة للمخدر الذي هو ضار أصلاً بطبيعته، ولكنه كان واقعياً في فكرة الظاهرة الاجتماعية وتحليلها.

الخلاصة، لا توجد حلول أمنية لمشكلات اجتماعية، الحلول الأمنية هي لاجتثاث عصابات تحاول تخريب المجتمع من خلال مخدراتها المضروبة، ولكن هل يوجد أحد يمكنه أن يفتح الملف بواقعية وأن يقدم حلولاً أخرى ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية؟

كالعادة، لا نفعل شيئاً جديداً سوى أن نلقي بالمشكلة على عاتق الجندي الذي يقف على الحدود، والشرطي الذي يمضي ليله في الشوارع، ونطالبهم بأن يحافظوا على الصورة الناصعة التي يريدها المشرعون والمنظرون الاجتماعيون الذي يغطون في النوم ويستيقظون على الندب والشكوى والمزاودة في الجانب الأخلاقي.