اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
*﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا*
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]
في غزة، حيث تُقلب الأرض نارًا تحت أقدام أهلها، لم يكن الثبات خيارًا، بل منحة إلهية تسكب على القلوب الصادقة كإفاضة من السماء في ساعة البلاء والشدائد. هناك، حيث بلغت القلوب الحناجر، وتكاثفت الظنون بالله، تمضي غزة على درب المؤمنين الأوائل؛ تثبت حين يترنح الآخرون، وتصبر حين يفرّ غيرها، وتُفشل مخططات الإبادة والتجويع والتهجير بسلاح الصبر والجوع والدموع.
فئة قليلة في الشمال صامدة، تكسر ظهر المؤامرة، وأخرى في الجنوب تؤكد أنه لا خلاص خارج الأسوار. يظل الثبات عنوان غزة، والربّ هو المدد والمدد، تثبت وهي ترى أبنائها يُقتلون، وجثثها تذروها الرياح، فلا تجد إلا أن ترفع صوتها بالدعاء: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾. ومع استنفاد العدو كل جبروته، وإسقاط آخر قنابله، وفتكه بكل أسباب الحياة، تبقى غزة واقفة كرمح الحق في وجه زيف العالم، يُثبّت الله قلوبها، ويُرعب قلوب أعدائها، فتتحول ملحمة ثباتها إلى منارة أمة وشرف لا يُنال إلا بالصبر العظيم.
وللثبات نصوص إلهية تضيء الطريق نحو النصر، إذ يقول الحق تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45]،
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]،
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: 47].
هذا الثبات لا يمنحه إلا الله للصادقين، كما أكد:
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [إبراهيم: 27].
في محرقة غزة الكبرى، حيث الأحزمة النارية والقصف المستمر يسحق البيوت فوق رؤوس أهلها، وحيث تزلزلت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلِ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: 10]، وابتلِيَ المؤمنون وزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شديدًا ﴿حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ﴾ [الأحزاب: 11]، كانت غزة تثبت أن نصر الله قريب ﴿أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
كان الرحيل الزحف بمئات الآلاف نحو الجنوب اختبارًا صعبًا للثبات، حيث صمدت فئة قليلة في الشمال تواجه إجرام عصابات الإبادة، وأفشلت مخطط التهجير، وبقيت أخرى في الجنوب رغم الحصار والجوع والمصاعب، لتكون شاهدة على أن خلاص غزة لا يتحقق إلا بصمود أهلها، وسط انقسام صارخ بين من عجّل بالخروج، ومن ثبت على أرض المعركة ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: 155].
هكذا هي الحروب، تفرق بين الأطراف، وتختبر الإيمان، كما في قصة الأحزاب، والابتلاء ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2].
وثبات غزة في وجه المجاعة التي ضربت جذورها في كل معدة، وأزهقت أرواح الكثيرين من أجل لقمة خبز، أو حماية قوافل المساعدات، فشل مخطط التجويع الأقسى، وفضح إجرام القوانين والأعراف الإنسانية ﴿بِنَقْصٍ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ﴾ [البقرة: 155].
ومع كل ذلك، تتواصل رسالة التواصي بالحق والتواصي بالصبر ﴿وَتَوَاصَوْا بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]، حيث يتجسد العمل التعاوني المشترك، مستحضرين دعاء النبي ﷺ في محنة أهل جعفر رضي الله عنه: 'اصنعوا لهم طعامًا فإنهم مشغولون'.
إن ثبات غزة أسطورة معجزة تُدفن فيها خيرة أهلها، وجراحها نازفة، تغرق في دماء أطفالها ونسائها، حتى في مراكز النزوح التي لم تسلم من المجازر. وهي تعيش ملحمة صمود عجيبة وسط إجرام عصابات الإبادة التي تلاحقها بالجوع والعطش والمرض، والقتل والخوف الذي ينهش خلايا أجسادها.
والله، إنه جرح نازف ووجع قاهر، ولولا لطف الله ورحمته، لما ثبتت قلوب أهل غزة ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [إبراهيم: 27].
فكان اللجوء إلى الله بالدعاء والابتهال واجبًا:
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [البقرة: 250].
ورغم كل المحن، لا يُسمع من غزة وأهلها للعالم سوى كلمات الصبر العجيب والثبات المنقطع النظير؛ نعم، إنها نعمة من الله وشرف عظيم:
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12].
فلنؤمن أن هذا الثبات ليس خيارًا بقدر ما هو هبة إلهية تنهل منها القلوب الصادقة، هو عنوان النصر الذي يبدأ بالصبر، والوحدة، والتوكل على الله.
فلتكن غزة رمح الحق في وجه زيف العالم، تمضي بصبر وثبات، تكتب بدمائها قصة انتصار قادم بإذن الله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].