اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في زمنٍ تُروَّج فيه المصطلحات الإنسانية كغطاءٍ سياسي، لا يمكن فصل مضمون أي «وقفٍ لإطلاق النار» عن الأهداف الاستراتيجية التي يحملها الطرف الأقوى. فما يجري اليوم في قطاع غزة لا يقتصر على هدنةٍ عابرة بين طرفين متحاربين، بل هو جزءٌ من تصميمٍ أعمق تُوجّهه رغبةٌ سياسية إسرائيلية، وتُنفَّذ عبر أدواتٍ عملية تتحالف مع سردياتٍ دبلوماسية تسعى إلى إعادة هندسة الواقع على الأرض. وتُظهر هذه الرؤية التحليلية أن ما يُسمّى «وقف إطلاق النار» يستخدمه الكيان الصهيوني كآليةٍ لتثبيت الحصار، وتكريس التهجير، وتفريغ المجتمع من إمكانية المقاومة، وتحويل القطاع إلى مساحة مراقبةٍ وإدارةٍ دائمة.
أولًا: رسم الخرائط كأداةٍ للسيطرة
يعمل الكيان الصهيوني على رسم خرائطٍ لما يُسمّى «المناطق الآمنة» و«المناطق المحظورة» و«الخطوط الصفراء»، بوصفها إطارًا جغرافيًا يمكّنه من تحويل أجزاء واسعة من القطاع إلى مناطق نفوذٍ محكومةٍ بقواعد خاصة. وهذه التقسيمات ليست بريئة؛ فهي تحدّد من يمكنه العيش، وأين يُسمح بإعادة البناء، ومن يُمنع من الوصول إلى البنى التحتية الأساسية. وبذلك تتحوّل المعابر ومحطات الكهرباء ومصادر المياه إلى أدواتٍ سياسية تُستخدم لفرض شروط الحياة اليومية. ومن خلال هذا التقسيم يفقد قطاع غزة وحدته الجغرافية والسياسية، وتتحول مدنه إلى كانتوناتٍ معزولةٍ عن بعضها، ما يسهّل التحكم بها وإدارتها من الخارج، وهو ما يسعى إليه العدو الصهيوني.
ثانيًا: تفكيك القدرة العسكرية والاجتماعية للمقاومة
وضعت تل أبيب مسألة نزع سلاح المقاومة وتحـييد أي تهديدٍ أمنيٍّ مستقبليٍّ كشرطٍ أساسيٍّ لاستكمال المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، في محاولةٍ واضحة لرسم خريطة قوةٍ جديدة في القطاع تُلغي قدرة الفلسطينيين في غزة، في الحاضر والمستقبل، على التنظيم والمقاومة، وتجردهم من وسائل القوة. ويؤدي ذلك إلى فرض واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ لا بديل للفلسطينيين عن التكيّف معه وفق معادلة 'الغالب والمغلوب'. فعندما يشترط العدو تفكيك السلاح مقابل إعادة إعمارٍ مشروطة، يتحول المشهد إلى مفاوضةٍ حول من يملك شرعية القرار في غزة: السكان المحليون أم القوى الخارجية التي تفرض معايير الأمن والإدارة وفق المتطلبات 'الإسرائيلية'؟
ثالثًا: إعادة الإعمار كآليةٍ رقابيةٍ ضمن شروطٍ 'إسرائيلية'
يحاول الكيان الصهيوني تقديم عمليات «الإعمار» بوصفها حلًّا إنسانيًا مجردًا من أي بعدٍ سياسيٍّ يتمحور حول حق الشعوب في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير. ومن خلال ذلك يسعى إلى فرض شروطٍ سياسية تحت غطاء «ذرائع أمنية وسياسية»، تشمل «الحق الإسرائيلي» في تحديد هوية القوى والجهات الدولية المساهمة والمتواجدة في القطاع خلال مرحلة مراقبة تنفيذ الاتفاق وإعادة الإعمار، إضافةً إلى حقه في تحديد شكل وأماكن العودة وفق منظوره الأمني والسياسي. وبهذه الطريقة تتحول المساعدات إلى أدواتٍ تحقق المصالح السياسية والأمنية لـ«إسرائيل»، وتفرض على الفلسطينيين نماذج سكنية واجتماعية تُقلّص المساحات العامة وتعيد تشكيل البنية الاجتماعية بما يخدم السيطرة الإسرائيلية طويلة الأمد. لذلك، لا يمكن النظر إلى الإعمار بمعزلٍ عن هوية من يصمّم مخططاته ومن يملك مفاتيح تمويله وتنفيذه.
رابعًا: الحرب الناعمة
يلعب السرد الإعلامي والقانوني الذي يُكثّفه الاحتلال الإسرائيلي دورًا محوريًا في تبييض إجراءاته المتخذة ضدّ قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار، وذلك من خلال توظيف مفرداتٍ إنسانية مثل «الممرات الإنسانية»، و«الإدارة الطارئة»، و«الإشراف الدولي». ويُحاول الاحتلال عبر هذا الخطاب تحويل إجراءاته القسرية — أي الإبادة الصامتة المتمثلة في القتل المباشر، والحصار، ومنع الأدوية، وإعدام مقوّمات الحياة — إلى سياساتٍ تبدو مقبولةً عالميًا بعد تغليفها بذرائع أمنية وسياسية. وتُخفّف هذه الحرب الناعمة من وطأة المساءلة الدولية عن كاهل الكيان عبر تغليف إجراءاته الأمنية والسياسية داخل القطاع بغطاءٍ إغاثي وإنساني وإداري، كما تُقوّض إمكانات المحاسبة عبر إيجاد «سياقات» تُظهر تلك الإجراءات كأنها حلولٌ طارئة لا سياساتٌ ممنهجة.
خامسًا: العواقب الديموغرافية والسياسية
يسعى العدو الصهيوني من خلال هذه السياسات إلى تجاوز مسألة الأمن الفوري وكبح تهديدات المقاومة المباشرة، نحو هدفٍ أعمق يتمثل في تفريغ القطاع من البنى التحتية المقاومة القادرة على المطالبة بالحقوق وإعادة توزيع القوى داخل المشهد السياسي الفلسطيني. كما يعمل على تنفيذ تهجيرٍ منهجي أو جزئي يجعل من العودة أمرًا صعبًا، ويُغيّر موازين القوى الديموغرافية، ويعيد تشكيل الواقع السكاني ضمن مربعاتٍ جغرافيةٍ أشبه بالمعازل الخاضعة للسيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية، على غرار نموذج مناطق «ب» أو «ج» في الضفة الغربية.
ونتيجةً لذلك، يُحوَّل قطاع غزة إلى منطقة مراقبةٍ ومقاطعاتٍ محكومةٍ بخطوط نفوذٍ تُضعف إمكانية إنشاء مؤسساتٍ مدنيةٍ مستقلة قادرة على إعادة بناء حياةٍ سياسيةٍ متوازنة.
لا شك، أن حكومة نتنياهو المتطرفة، منذ أن وقعت على اتفاق وقف إطلاق النار، كانت تخفي في جعبتها أجندةً أمنيةً وسياسيةً تهدف من خلالها إلى إعادة تشكيل الواقع السياسي والأمني في القطاع بما يتطابق مع الطموحات والرغبات الإسرائيلية، مستغلةً تراجع الضغوط الداخلية بعد طيّ ملف الأسرى، واحتمال تراجع الاهتمام الأمريكي والدولي بملف غزة مع مرور الوقت، وهو ما يوفر بيئةً دوليةً وإقليميةً مناسبة لاستكمال مخططاتها في القطاع.
في المحصّلة، يسعى الاحتلال الصهيوني، وفق أجندته الخاصة، إلى تحويل مخرجات ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار إلى غطاءٍ لتثبيت احتلالٍ طويل الأمد بصيغةٍ إداريةٍ وقانونية. ويرى أن الواقع المتغير والتحولات البراغماتية في الدبلوماسية الغربية، ولا سيما الأمريكية، توفّر بيئةً مناسبةً لفرض نمطٍ من السيطرة يُعاد إنتاجه وتشكيل واقعٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ جديد «وفق الرؤية الإسرائيلية» بوسائل ناعمة.

























































