اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١٦ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب:
د.رائد ابوعيد
يواجه الاقتصاد الفلسطيني أزمة وجودية، حيث يمر بما وصفه البنك الدولي (2024) بأنه 'أسوأ انكماش له منذ أكثر من ثلاثة عقود'، مما يهدد بانهيار بنيوي شامل. يتجلى هذا الخطر بوضوح في موازنة السلطة الفلسطينية الطارئة لعام 2024، والتداعيات الكارثية المترتبة على استمرار إسرائيل في حجز أموال المقاصة، التي تمثل شريان الحياة المالي للاقتصاد الفلسطيني.
موازنة 2024: ملامح أزمة غير مسبوقة
تعكس موازنة الطوارئ لعام 2024 واقعًا اقتصاديًا قاتمًا، حيث يُتوقع أن يرتفع العجز الإجمالي بنسبة 172% مقارنة بالعام السابق (ائتلاف أمان، 2024). وتستند هذه التوقعات المتشائمة إلى عاملين رئيسيين:
1. انهيار الإيرادات: تتوقع وزارة المالية انخفاضًا حادًا في إجمالي الإيرادات بنسبة تقارب 21%، نتيجة تراجع الإيرادات المحلية بسبب الركود الاقتصادي، وانخفاض إيرادات المقاصة (ائتلاف أمان، 2024).
2. إجراءات تقشف حادة: لمواجهة هذا النقص، تضمنت الموازنة إجراءات تقشفية صارمة، تشمل تخفيض النفقات العامة بنحو 7%، وتقليص نفقات الرواتب والأجور والنفقات التشغيلية والرأسمالية إلى الحد الأدنى (ائتلاف أمان، 2024).
هذه الأرقام لا تمثل مجرد بيانات مالية، بل تنذر بتوقف وشيك للخدمات الأساسية في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والأمن، وهو ما حذرت منه الحكومة الفلسطينية مرارًا.
أموال المقاصة: السلاح الاقتصادي الذي يشل السلطة
لفهم عمق الأزمة، لا بد من فهم آلية 'أموال المقاصة'. بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي (1994)، تقوم إسرائيل بجمع الضرائب والجمارك على السلع المستوردة إلى الأراضي الفلسطينية نيابة عن السلطة، ثم تحولها شهريًا بعد خصم عمولة 3%. هذه الأموال ليست منحة أو مساعدة، بل هي ضرائب فلسطينية خالصة يدفعها التجار والمستهلكون الفلسطينيون.
تكمن خطورة هذه الآلية في أنها تمنح إسرائيل أداة ضغط سياسي واقتصادي هائلة. وقد تحولت هذه الأداة إلى سلاح فعال لشل قدرة السلطة الفلسطينية على العمل، حيث تشكل أموال المقاصة ما بين 65% إلى 70% من إجمالي إيرادات الخزينة العامة (المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات - مسارات، 2024).
التأثيرات المباشرة لحجز أموال المقاصة
1. أزمة سيولة خانقة وعجز عن دفع الرواتب:منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2021، تصرف السلطة رواتب منقوصة لموظفيها العموميين. ومع التوقف شبه الكامل لتحويل الأموال لأشهر متتالية، تفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق. هذا الأمر لا يؤثر فقط على الموظفين وأسرهم، بل يشل القوة الشرائية في المجتمع بأكمله، مما يفاقم الركود الاقتصادي.
2. تراكم الديون وتهديد القطاع المصرفي: لمواجهة العجز، لجأت السلطة بشكل مكثف إلى الاقتراض من البنوك المحلية وتراكم المتأخرات للموظفين والقطاع الخاص وصندوق التقاعد. حذر البنك الدولي (2024) من أن هذا الوضع يضع القطاع المصرفي الفلسطيني، الذي أثبت صمودًا حتى الآن، تحت ضغوط هائلة وغير مسبوقة. وقد وصلت قيمة الأموال المحتجزة لدى إسرائيل إلى أرقام فلكية، حيث تقدرها بعض المصادر بـ 10 مليارات شيكل (حوالي 2.7 مليار دولار) (المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات - مسارات، 2024).
3. انكماش اقتصادي حاد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة: يرسم تقرير البنك الدولي (2024) صورة قاتمة للاقتصاد الكلي، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 27% خلال عام 2024، وهو الانكماش الأعمق منذ عقود. انهار النشاط الاقتصادي في غزة بنسبة 83%، بينما شهدت الضفة الغربية انكماشًا بنسبة 17%. وقد أدى هذا إلى فقدان ما يقرب من نصف مليون وظيفة وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية، حيث بلغت حوالي 80% في قطاع غزة وأكثر من 30% في الضفة الغربية. ونتيجة لذلك، يعيش جميع سكان غزة تقريبًا في فقر، وارتفع معدل الفقر الإجمالي للفلسطينيين بشكل كبير (البنك الدولي، 2024).
خاتمة: نحو انهيار بنيوي
يحذر الخبراء والمنظمات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي (2024)، من أن استمرار الوضع الحالي دون حل سياسي واستعادة منتظمة وشفافة لأموال المقاصة، سيدفع الاقتصاد الفلسطيني من أزمة مالية حادة إلى 'انهيار بنيوي' يصعب التعافي منه. الأزمة لم تعد تقتصر على عجز الموازنة، بل أصبحت تهدد وجود الكيان الفلسطيني وقدرته على تقديم أبسط الخدمات لمواطنيه، مما ينذر بتداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة.