اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٩ حزيران ٢٠٢٥
وقفت مع رفيق الدرب صبيحة هذا اليوم الأغرّ من أيام هذه الملحمة العظيمة في غزّة، كان مستبشرا بوجه مشرق وضيء وكأنه قد رأى رسول الله في المنام على التوّ، وبالمناسبة لا يُستحسن ذكر اسمه الان فهؤلاء يُذكرون في السماء كثيرا قبل أن تذكرهم الأرض قليلا، هتف بقلب مفعم بحيوية وروح عالية اعتدناها عليها كلما تفتّق عقله عن خطّة لعملية جريئة:
- هذه العملية يا سادة يا كرام تحتاج إلى منفّذ واحد فقط.
' سألته أنا ابن عقدته القتالية ورفيق دربه في هذه الحرب الطويلة التي نجونا من فم الموت فيها معا مرّات كثيرة:
- 'دعني أكن على يمينك يا سيّد الأبطال.
- لا داعي.
- إذا أترك التصوير لي، وظيفة من لا وظيفة له.
- لا داعي للتصوير هذه المرّة، أريدها خالصة لوجه الله تعالى.
- وهل تمنع الصورة الإخلاص؟ هل تستخفّ بالصورة وأنت خير من يعلم أنّها تشكّل صاعقا دائما لنفسية جنودهم وضباطهم المنهكة، تضرب مجتمعهم من 'ساسه لراسه' وتجعلهم كالعصف المأكول.
- أعلم ذلك ولكن هذه نسبة عودتي فيها سالما لا تتجاوز الصفر بالمائة. إنّها الشهادة بإذن الله بعيدا عن أعين الناس.
- يجب أن أذكّرك بالقاعدة الذهبية ترك العمل خوف الرياء رياء، وجّه قلبك لله واترك التصوير عليّ.
- اللهم عملا صالحا خالصا لك لا أشرك به أحدا.
كنت أرقبه وهو يحضّر عبوة الشواظ وهو يرتّل: 'يُرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران' منتشيا مرحا مبتهجا وكأنه ينهي تحضيرات اللمسات الأخيرة على حفل زفافه، لا بأس فقد أدمن على هذا النوع من القتال وبالتحديد اعداد هذه العبوة من مخلفات الجيش الصهيوني التي أسعفها الحظ ولم تنفجر، زرع منها كثيرا على دروب الموت التي تسلكها دباباتهم، وتجاسر كثيرا ليزرعها من مسافة صفر على جسم الدبابة أو الجرافة ثم يفجرها في هؤلاء القوم الذي يجيدون صناعة الموت بحرفية عالية، جاءهم من يلقي بهم إلى الموت حرقا وبذات الطريقة التي أذاقوها لآلاف الناس في غزة.
بات الهدف لي معروفا والطريقة كذلك ممكن توقّعها ومع هذا أضع يدي على قلبي وتشتعل الهواجس في رأسي: فخسارة مثل هذا الرجل خسارة عظيمة، هل تراه ينجح وهو عرضة لأن يأتيه القصف من كل الاتجاهات، رغم أنّه يجيد التربّص للفريسة المنشودة، ويجيد زراعة الموت في طريقهم.
يتحوّل النفق الى فرن في هذا الصيف الثاني للملحمة، ضاقت علينا الانفاق بما رحبت، تهبّ نسمات رطبة أحيانا تخفّف من وطأة هذه الأجواء الخانقة، ماذا قلت الخانقة لا بل القاتلة، يبتسم صاحبنا دائما دون أن يتأثر بهذا الوسط المشحون بكل شيء: القلق والخوف والترقب والانتظار وسماع الاخبار المريعة حيث صاروا يستهدفون عائلات المجاهدين لقصفهم وقطع نسلهم كي لا تنجب من يقاومهم ويقف ندّا لهم. هذا عدا عن صوت الطائرات التي لا تغادر غزة وحمم الموت التي يتوالى تفجيرها دون أيّ انقطاع.
قال لي بالأمس ضمن سلسلة النقاشات حول المعركة وتداعياتها والتي يبدو أن لا نهاية لها:
- لا بدّ من عمليات تصيب روحهم قبل أن تصيب أجسادهم، العملية ستكون رسالة تصيبهم في مقتل. وأيّما مقتل؟
- لقد فعلت بهم عملياتنا الكثير، كم زرعنا من عبوات 'جواظ' مثل هذه التي تجهزها
- لقد مللت من الزراعة؟
- وكم ألصقناها بجسم الدبابة 'وفقعناها' من الخلف؟
' ابتسم ورفع حاجبيه وهزّ رأسه:'
- أريد ما هو أبلغ وأوجع من هذه.
' قلت متعجبا ومستغربا:'
- الله يسترنا منّك، 'أبصر على ايش ناوي' ألا تريد إخبارنا.
- الليلة ترى الخبر بأمّ عينيك، المهم لا تنسى المهمة التي أوكلتها اليك.
- القيادة تُوكّل المراقبة للعناصر ثم تقوم هي بالفعل.
- انساك من قصة قيادة وعناصر نحن الفقراء الى الله. المهمّ: علينا أن نضبط حركة الجنود الآمنين المطمئنين في مدرّعتهم التي يسمونها: 'البوما'.
- إن شاء الله بومة على روسهم.
- عيّن خير، عيّن خير.
- لا تريد إخبارنا وستحتفظ بعنصر المفاجأة، لكن على عادتك تجعل للعملية اسما؟
- لا بأس أخبرك باسمها، لكن لا تسأل بعدها، اتفقنا؟
- اتفقنا.
- اسمها داود الفلسطيني.
- بهذا تستحضر قصة داود عندما قتل جالوت، جميل جدا ولكن أين المقلاع الذي سيحمل هذا الجواظ؟ تحتاج إلى منجنيق.
- قلت لك لا مجال لأيّ سؤال.
حلّ المساء وحلّت ساعة الصفر، هجعت المدرّعة بعد أن عاثت الفساد والدمار كثيرا في غزّة، عربدت وقصفت ودمّرت والله أعلم كم قتلت من الأرواح البريئة، الجنود يرمون الناس بالموت من غير أن يرفّ لهم جفن، وكأنهم يمارسون ألعابا الكترونية بأناملهم الرخيّة على الزناد، وكانت آخر المهام لهم تطفيش الجائعين عند مركز مساعدات أعدّوه خصيصا للقتل المريع بصورة لم تعهدها البشرية المجرمة من قبل، قتلوا وجرحوا الالاف المؤلفة وهم يصفرون ويصفقون ويترنمون بنشيدهم المقيت.
تقدمنا والليل البهيم يرخي سدوله علينا سوى بريق القصف الذي يضيء طريقنا، تسللنا من منطقة مليئة بالركام، أنا حامل الكاميرا وحامل الجواظ على كتفه، المسار صعب خاصة أننا حافيا الأقدام، والمطلوب أن لا نصدر أي صوت مهما كان خافتا، الزنّانات بكل أنواعها المحلقة على مسافات مختلفة لا تنفك عن سمائنا ليل نهار، أن تسري في هذه الديار الملغومة سماؤها ليس سهلا، الكاميرات الليلية أقوى بصيرة ولم يعد الليل ساترا إلا ما رحم الله، لم يعد لنا سبيل إلا تسليم الأمر لله بعد استنفاد كل الأسباب التي نمتلكها في مواجهة أسبابهم التي تفوقنا عدة وعتادا أضعافا مضاعفة.
كانت توقعاتي أن يصل هذه المدرّعة المسماة 'البوما' بعد أن يستقرّ الراكبون السبعة فيها اختباء من قناصة المقاومة، ثم يلصق الشواظ فيها أو يضعها تحتها ثم يعود فيفجّرها عن بعد، جلست في موقع التصوير وأنا أتخيّل السيناريو الجديد.
تقدم بثبات، زحف باتجاه الوحش الذي لا يدع شاردة ولا واردة للموت إلا ويلقي به بكل قسوة وعنف، اقترب منها كثيرا وأنا قلبي يلهج بالدعاء: يا رب يا رب، وصلها زاحفا، ثم إنه وضع العبوة على جناحها ثم امتطاه بقفزة أسد، حمل الجواظ وارتقى ثانية نحو راس الوحش، ماذا يفعل المجنون، هل تراه يلقي بها في حجورهم؟ بالفعل شبّك أسلاكها بسرعة ثم ألقى بها من فوّهتها العلويّة إلى أعماق أعماقها، ثم قفز من عليائها، فلخ باتجاهي وانفجرت العبوة لتسبب انفجارات متتالية هزّت المكان وكأننا نشهد إذا زلزلت الأرض زلزالها. جرى كل ذلك مسجلا بالصوت والصورة، وصلني طبعت قبلة سريعة على جبينه وهتفت:
- فعلها داود الفلسطيني. بالفعل كان العنوان موفّقا.
وصلت مجموعة من المقاومين لتغطّي انسحابنا ثم جلست تنتظر قوات الإنقاذ كي تعالجها بالنار والاشتباك، جاءت مروحيات الإنقاذ ولم يستطيعوا اخراج الجنود من جوف المدرّعة، أشار عبقري منهم بأن يحثوا التراب على الدبابة بجرافة 'الدي ناين'، دفنوهم بنيران غزّة وترابها، إلّا أنّ النيران لم تتوقّف بعد انفجار ذخائرها، سحبوها خارج غزّة كي يتمكنوا من إطفاء نارها وكأن نيران غضب غزة عليهم من كثرة جرائمهم لا تذوي إلا بعد أن تلفظهم غزّة.
عدت من هذه الملحمة لأكتب في مذكّراتي:
حجر داود الذي قتل به جالوت رأيته اليوم وهو يتحوّل في غزّة إلى عبوة 'جواظ'، داود رمى بحجره من مقلاعه فأصاب جالوت وقتله وكانت الضربة القاضية في تلك المعركة التي خلّدها القرآن.
داود الفلسطيني اليوم فعلها بطريقة مختلفة، طارد وحشهم المصفّح بقطع الحديد الثقيلة والمذخّر بقذائف الموت والدمار، لحق بها وتشربح جدارها الصلد ثم اعتلى ظهرها وهو يحمل عبوة تزن على الاقلّ خمسة كيلو غرامات، امتطى صهوة حصانهم الجموح، فتح عليهم الباب العلويّ وألقى بحجره المشتعل في قلب هذا الوحش والان في لحظة صدق مباركة انتهى أجلها هي ومن فيها من المجرمين القتلة.
داود الفلسطيني جاءهم بالموت من كلّ مكان، جمع لهم حصادهم الاسود من الموت الذي رموا به غزّة على مدار العشرين شهرا وصبّه فوق رؤوسهم دفعة واحدة.
داود الفلسطيني اليوم يحمل راية داود عليه السلام، أنتم لستم على أية علاقة مع أيّ نبيّ، أنتم علاقتكم فقط مع الشيطان وقتل الحياة من حياة الناس، هذا هو فعل حجارة داود الفلسطيني بعربات جدعونكم المزيّف.
نحن أولى بداود منكم، داود الفلسطيني أذاقكم الموت الذي أذقتموه شعبه بقذيفة واحدة حرقت قلوب شعب تسلّى كثيرا وهو يحرق المستشفيات وخيام النازحين، لم يكترثوا وهم يلقون بحمم الالفي رطل على عائلة الطبيبة الاء النجار فيحرق العائلة بأكملها وهم اليوم تراهم تنزف قلوبهم دما وهم يخرجون جثث الجنود المتفحمة من بطن صانعة الموت في غزّة.
أيها القاتلون المجرمون داود الفلسطيني بمقلاعه وحجارته لكم بالمرصاد.